|
| الإعـجاز التاريخـي | |
| | |
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:43 am | |
| (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ُ.... * )ب بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2011-05-31 تم تم تم نبيلة 383 ب- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ُ.... * ) ( الإسراء : 1 ).بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار من الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج ما يلي : أولا: الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود والتي أسرت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى بيت المقدس, ثم عرجت به إلى سدرة المنتهى عبر السموات السبع, ثم أعادته إلى بيت المقدس ليصلي إماما بجميع أنبياء الله تأكيدا لمقامه -صلى الله عليه وسلم- ثم رجعت به إلى بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. فقد أوقف الله- تعالى- له الزمن , وطوى المكان , ولا يقدر على ذلك إلا رب العالمين. وهنا يجدر التأكيد على أن كلا من الزمان والمكان هو من خلق الله, وأن الله- تعالى- قادر على إيقاف الزمن, وعلى طي المكان لمن يشاء من عباده. ولكي ندرك ضخامة هذه المسافات أذكر: أن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 36 بليون سنة ضوئية, والسنة الضوئية تقدر بنحو (9,5 مليون مليون كم). بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) فإنه سوف يحتاج إلى 36 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى, حيث شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بالمثول بين يدي ربه, وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.
ثانيا: الإيمان بأن الله –تعالى- الذي خلق كلا من المادة والطاقة, والمكان والزمان, هو فوق ذلك كله, ومنزه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, فلا تحده حدود أي من المكان أو الزمان, ولا حدود أي من المادة أو الطاقة, وهو- تعالى- قادر على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه. ثالثا: التأكيد على مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند رب العالمين , فهو أحب خلق الله إلى الله- تعالى-, ولذلك أوصله إلى مقام من السماء لم يصل إليه غيره من البشر, ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين, وهو خاتمهم أجمعين, ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف تأكيدا على مقامه عند رب العالمين, وعلى نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم. وفي ذلك إشارة إلى من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلى ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم, وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به, كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى, إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين, وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين. رابعا: الإشارة إلى ضرورة الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا, وهي قيم إسلامية أكدتها إمامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لجميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بهم بالمسجد الأقصى وعالم اليوم المضطرب بالعديد من الفتن والمظالم, والغارق في بحار من الدماء والأشلاء, والذي يعاني من الإفساد والخراب والدمار في كل مجال, ما أحوجه إلى استعادة هذه القيم الربانية السامية من جديد!! خامسا: التأكيد على حرمة كل من مكة المكرمة وبيت المقدس. فعن أبي ذر- رضي الله عنه- أنه قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال "المسجد الحرام" قلت ثم أي, قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم كان بينهما ؟ قال: أربعون سنة " ( رواه كل من البخاري ومسلم وأحمد). وكل من الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى قد تم بناؤه قبل خلق الإنسان ببلايين السنين ومن هنا كانا مكانين لمن يعبد الله- تعالى- وحده (بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد). ولا يمكن نسبة أي منهما إلى دين غير دين الإسلام وهو الدين الوحيد الذي يؤمن أتباعه بجميع أنبياء الله ورسله دون أدنى تفريق, ولذلك لا يرتضي ربنا- تبارك وتعالى- من عباده دينا سواه. فقد أنزل الله أبوينا آدم وحواء في مكة المكرمة ثم جاء من نسلهما عدد من الأنبياء الذين أسكنهم الله- تعالى- في أرض فلسطين, وأمر إبراهيم- عليه السلام- أن يضع زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل في مكان البيت حتى يأتي من نسله خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- ليلتقي أول النبوة بخاتمها, ثم يسري بخاتم أنبيائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا على حرمة هذين المكانين. سادسا: التأكيد على فضل الصلاة التي فرضت من الله- تعالى- مباشرة إلى خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين, حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة, كما أصبح السعي إليها في صلاة العشاء والفجر يمثل مسرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, ومن هنا كانت آخر ما أوصى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته.
سابعا: الإيمان بوقوع معجزة "الإسراء والمعراج" بالجسد والروح معا, وفي حالة من اليقظة الكاملة والتأكيد على صدق جميع المرائي التي رآها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طيلة هذه المعجزة؛ وكان منها بعث للأنبياء والمرسلين السابقين ولقائهم به, وحديثهم معه, والله على كل شئ قدير. وكان من هذه المرائي: المكرمون من أهل الجنة في الجنة والمجاهدون (يزرعون في يوم ويحصدون في يوم), وبلال مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وماشطة بنت فرعون وأولادها (يعبقون بريح المسك). وكان منها النار وخزنتها والمعذبون فيها, ومنهم: الدجال والمتثاقلون عن الصلاة (ترضخ رءوسهم بالحجارة), ومانعوا الزكاة (يأكلون الزقوم وعلى أدبارهم وإقبالهم رقاع تفضحهم), والزناة: (يتركون اللحم النضج الطيب, ويأكلون اللحم النيئ, النتن, والنساء الزانيات معلقات بصدورهن), وقاطعو الطريق, ومضيعو الأمانة, وخطباء الفتنة ( تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد , وكلما قرضت عادت), وأصحاب الكلام الفاحش (على هيئة الثور الذي يخرج من جحر فلا يستطيع العودة فيه), وأكلة أموال اليتامى (يلقمون الجمر في أفواههم فيخرج من دبرهم), والمغتابون (لهم أظفار من نحاس يخدشون بها صدورهم ووجوههم ويقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه), والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا, وعاقر ناقة صالح, والكذابون: (بيد كل واحد منهم كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه, ثم يخرجه, ويفعل بشدقه الآخر مثل ذلك, وكلما التأم شدقه عاد فيكرر فعله ), ومنهم أكلة الربا (والحيات في بطونهم). وقد يسأل سائل كيف كان ذلك والساعة لم تقم بعد؟ والموتى لم يبعثوا بعد ؟ وهنا يأتي التأكيد بأن الحاضر والماضي والمستقبل كله عند الله حاضر, والله- تعالى- قادر على أن يطلع من يصطفي من عباده عليه, وأن كلا من حدود الزمان والمكان من خلق الله, يحد بهما المخلوقين, والله- سبحانه وتعالى- قادر على طيهما أو إلغائهما تماما , والتسليم بضخامة الكون وبتعاظم أبعاده. ثامنا: الإيمان بالغيوب المطلقة التي أخبر عنها القرآن الكريم, ومنها الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, وبحتمية الآخرة, وما فيها من الحساب والجزاء, والجنة والنار, والميزان والصراط. تاسعا: التأكيد على أن الابتلاءات هي من سنن أصحاب الدعوات في كل زمان ومكان, وأنها من وسائل التطهير والتزكية للنفس الإنسانية, وعلى ذلك فإنه يجب على المسلم ضرورة الالتجاء إلى الله- تعالى- في كل شدة, واليقين بأنه إذا انقطعت حبال الناس فإن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا ما دام العبد متوكلا على الله حق التوكل, وأنه ليس بعدالعسر إلا اليسر. ونحن نرى ذلك في التكريم العظيم الذي لقيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رحلة الإسراء والمعراج, والتي أكرمه الله- نعالى- بها بعد عام الحزن الذي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد فقد فيه كلا من زوجه أم المؤمنين السيدة خديجة- عليها رضوان الله- وعمه أبو طالب, فاشتدت وطأة كفار ومشركي قريش عليه حتى أخرجوه من مكة, فلجأ إلى أهل الطائف طالبا التأييد منهم حتى يبلغ دعوة الله, فردوه ردا غير جميل أغروا به جهالهم الذين أدموا قدميه الشريفين, فوقف في الطريق بين الطائف ومكة يناجي ربه بمناجاة تهز القلب والعقل معا. ثم دخل مكة بجوار (أي في حماية) أحد كبار مشركيها. وبعد كل هذه المعاناة جاءت معجزة الإسراء والمعراج تكريما وتشريفا خاصين له- صلى الله عليه وسلم- من دون الخلائق, ليطلعه ربه- تبارك وتعالى- على عوالم من الغيب لم يرها غيره من البشر, بما في ذلك الأنبياء والمرسلون الدين بعثهم الله- تعالى- جميعا لمبايعته على إمامته لهم. عاشرا : التحذير من مخاطر المفاسد السلوكية على الإنسان, أفرادا ومجتمعات, وعلى شدة العقوبة عليها في الدنيا قبل الآخرة تحريما لها, ومنعا للوقوع فيها. فقد شاهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المرائي في رحلة المعراج ما يفزع كل عاقل من الوقوع في أي منها, فقد رأى عقوبات عدد من الجرائم مثل الزنا, ومنع الزكاة, والوقوع في الغيبة والنميمة, وأكل أموال اليتامى ظلما, وأكل الربا, وأكل أموال الناس بالباطل, كما رأى عقاب خطباء الفتنة, وجزاء تضييع الأمانة, وغير ذلك من الجرائم التي قد يقع فيها كثير من الناس. ولو أدركوا هول العقاب على كل جريمة من هذه الجرائم ما وقعوا فيها أبدا. كذلك رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أثناء عروجه في السموات العلى بعض ثواب المجاهدين في سبيل الله الذين تضاعف لهم حسناتهم إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة... والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. حادي عشر: التسليم بأن المعجزات هي خوارق للسنن , وبالتالي فإن العقل البشري لا يستطيع تفسيرها , وعلى كل من المسلم والمسلمة الإيمان بما جاء عن تلك المعجزات في كل من كتاب الله وسنة رسوله دون محاولة تفسيرها بإمكانات العقل البشري المحدودة . هذه بعض الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج, وهي بالإضافة إلى كونها معجزة كونية, فإنها تبقى أعظم حدث في تاريخ البشرية. من جوانب الإعجاز العلمي في وصف القرآن الكريم لرحلة الإسراء والمعراج:
1- الدقة المطلقة في التسمية : فالإسراء هو السفر بالليل , والمعراج هو الصعود في السماء في خطوط متعرجة, وذلك لأن جميع صور المادة والطاقة لا يمكنها التحرك في خطوط مستقيمة في السماء لتباين جذب الأجرام السماوية المختلفة لها . 2- اختيار الأماكن بدقة بالغة بين مكة المكرمة, ويثرب, وبيت المقدس والربط بين قدسيتها, وهو ربط يؤكد وحدة رسالة السماء, والأخوة بين الأنبياء, مما يفرض على جميع المسلمين حماية هذه المقدسات من مطامع الطامعين, وهمجية ووحشية أعداء الدين. 3- تعاظم المسافات التي قطعها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في رحلة الإسراء والمعراج مما يؤكد على طي المكان وإيقاف الزمان له, والله- تعالى- على كل شئ قدير. 4- تعاظم القوة اللازمة للإفلات من جاذبية الأرض, وعدم توافر الوسائل المعينة على ذلك في زمن يتقادم بأكثر من ألف وأربعمائة سنة عن زماننا الراهن, مما يؤكد على ضخامة المعجزة. 5- حماية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المخاطر التي تواجه الفرد العادي عند ريادة الفضاء من التباين الهائل في درجات كل من الحرارة, والضغط, وتناقص نسبة الأكسجين, وتزايد نسب الغازات الخاملة, ومخاطر كل من الأشعات الكونية, والشهب, والنيازك, وظلمة الكون, وما لا نعرفه غير ذلك من المخاطر. ووقوع الإسراء والمعراج بالجسد والروح,وفي حالة من اليقظة الكاملة وسط كل هذه المخاطر يمثل أعظم المعجزات التي مرت في تاريخ البشرية على الإطلاق. 6- بعث جميع الأنبياء السابقين وأصحاب المرائي التي رآها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل القيامة الكبرى والحساب, مما يثبت أن الله- تعالى- على كل شيء قدير. 7- التأكيد على وحدة رسالة السماء, وعلى الأخوة بين الأنبياء- صلى الله وسلم وبارك عليهم أجمعين- وذلك بائتمامهم بخاتمهم أجمعين في الصلاة ببيت المقدس مما يثبت اكتمال الدين , وإتمام النعمة ببعثته- صلى الله عليه وسلم- ويؤكد مقامه عند رب العالمين. هذه بعض الملامح عن معجزة "الإسراء والمعراج" والتي يجب معاودة استذكارها في هذه المناسبة الكريمة ليعرف المسلمون شيئا عن طلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود, كما يعلمون شيئا عن مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي ختم الله- تعالى- ببعثته الشريفة سلسلة النبوات كما ختم برسالته كل رسالات السماء ولذلك تعهد بحفظها فحفظت على مدى أربعة عشر قرنا أو يزيد. فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين, اللهم آمين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:44 am | |
| (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ ت م تم تم نبيلالحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.... * )أ بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2011-05-24 383 أ - (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.... * ) ( الإسراء : 1 ).بقلمالأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار يروي مؤرخو السيرة النبوية الشريفة أنه في يوم الإثنين السابع عشر من ربيع الأول من السنة السابقة على هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ( وقيل في 27 رجب من نفس السنة أي : في حدود سنة 620م) طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حول الكعبة ليلا وحيدا, ثم رجع إلى بيته وأوى إلى فراشه, وعند منتصف الليل جاءه جبريل(عليه السلام) وأخبره بأن الله- تعالى- يدعوه إلى السماء. تحرك الركب الكريم على البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وصلى رسول الله ركعات في بيت المقدس ومعه الملائكة الكرام, ثم عرج به عبر السموات السبع حتى وصل إلى سدرة المنتهى, وهناك شاهد جنة المأوى, وراح يصعد حتى وقف بين يدي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وسجد- صلى الله عليه وسلم- قائلا: "التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله" فرد الحق – عز وجل- قائلا : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته", فردت الملائكة لهذه التحية الربانية قائلة: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " (صحيح مسلم). وقد جعلت هذه التحية بداية التشهد الذي يردده المسلمون في صلواتهم التي فرضها الله- تعالى- عليهم في هذا الموقف العظيم, وأوحى الله- تعالى- إلى خاتم أنبيائه ورسله ما أوحى, وكان من ذلك الصلاة المفروضة على المسلمين كما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة المباركة من آيات ربه الكبرى ما لم يفصح القرآن الكريم عن تفصيله, وإن ذكرت السنة النبوبة المطهرة طرفا منه. وبعد رحلة التكريم الإلهي تلك, عاد رسول الله- صلى الله عله وسلم- إلى بيت المقدس, حيث صلى بأنبياء الله ورسله إماما, ثم عاد إلى مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. وعندما جاء الصباح حدث النبي- صلى الله علي وسلم- بأخبار رحلته وذهب بها المشركون إلى أبي بكر بن قحافة- رضي الله عنه- فكان أول المصدقين بها ومن هنا سمي باسم "الصديق" لقوله : إن كان قال ذلك فقد صدق, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك. ولكن المشركين ظلوا يتناقلون الخبر في سخرية وتعجب, وتحدى بعضهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصف لهم بيت المقدس, فجلاه الله- تعالى- له, وطفق يصفه لهم وصفا تفصيليا, وفي ذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لما كذبتني قريش قمت في الحجر, فجلى الله لي بيت المقدس, فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه". وفي صبيحة ليلة الإسراء كذلك جاء جبريل- عله السلام- ليعلم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها, وكان- صلى الله عليه وسلم- قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم- عليه السلام-. وفي ذلك يروي كل من الترمذي والنسائي عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- قال : "جاء جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- حين زالت الشمس, فقال: قم يا محمد فصل الظهر حين مالت الشمس, ثم مكث حتى إذا كان فيئ الرجل مثله جاءه للعصر فقال: قم يا محمد فصل العصر, ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم فصل المغرب, فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء, ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء, فقام فصلاها, ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح فقال: قم يا محمد فصل الصبح ". وقد بين هذا الحديث أول كل وقت, وله بقية اشتملت على بيان نهاية الوقت, ومن تلك البقية "أنه جاءه في اليوم التالي, وأمره بصلاة الظهر حين بلغ ظل كل شئ مثله, وأمره بصلاة العصر حين بلغ ظل كل شئ مثليه, وأمره بصلاة المغرب في وقتها الأول, وأمره بصلاة العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول, وأمره بصلاة الصبح حين أسفر جدا, ثم قال له: ما بين هذين وقت كله. وفي وصف رحلة الإسراء يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الإسراء : 1). والإسراء واقعة تاريخية لم ينكرها كفار قريش, وإن تعجبوا من كيفية وقوعها. فقد روى القاضي عياض في كتابه المعنون "الشفا بتعريف حقوق المصطفى " أن حادثة (الإسراء والمعراج) كانت قبل هجرته الشريفة بسنة, وأنه لما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من رحلته المعجزة أخبر قومه بذلك في مجلس حضره من صناديد قريش كل من المطعم بن عدي, وعمرو بن هشام, والوليد بن المغيرة, فقال – صلى الله عليه وسلم- "إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد, وصليت به الغداة, وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس, فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم, وموسى, وعيسى, وصليت بهم وكلمتهم. فقال عمرو بن هشام مستهزئا : صفهم لي , فقال- صلى الله عليه وسلم- أما عيسى ففوق الربعة, ودون الطول, عريض الصدر, ظاهر الدم, جعد أشعر تعلوه صهبة (أي بياض بحمرة), كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى فضخم آدم طوال, كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان مقلص الشفة, خارج اللثة, عابس, وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا. فقالوا يا محمد! فصف لنا بيت المقدس, قال- صلى الله عليه وسلم- : دخلت ليلا وخرجت منه ليلا, فأتاه جبريل بصورته في جناحه, فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصفه لهم قائلا: باب منه كذا في موضع كذا, وباب منه كذا في موضع كذا. ثم سألوه عن عيرهم (أي قوافل إبلهم ), فقال لهم- صلوات الله وسلامه عليه- : أتيت على عير بني فلان بالروحاء, قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها, فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد, وإذا بقدح ماء فشربت منه, فاسألوهم عن ذلك قالوا: هذه والإله آية. وأضاف- صلى الله عليه وسلم- قوله : ثم انتهيت إلى عير بني فلان, فنفرت مني الإبل, وبرك منها جمل أحمر, عليه جوالق (وهو العدل الذي يوضع فيه المتاع) مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير أم لا, فاسألوهم عن ذلك, قالوا : هذه والإله آية. وأضاف- صلوات ربي وسلامه عليه- قائلا : ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالتنعيم, يقدمها جمل أورق (أي لونه أبيض وفيه سواد), وها هي تطلع عليكم من الثنية, فقال الوليد بن المغيرة : ساحر؛ فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال- صلى الله عليه وسلم- وبدلا من أن يصدقوه رموه بالسحر – شرفه الله عن ذلك – مضيفين إلى بهتانهم هذا قولهم الباطل: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال. وتسارعوا إلى أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قائلين: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس, فقال أبو بكر : أو قال ذلك ؟ قالوا نعم , قال: لئن كان قال ذلك فقد صدق, قالوا : أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال أبو بكر : نعم, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. ولذلك لقب أبو بكر بلقب الصديق". (المستدرك للحاكم). وهذا الحديث الصحيح هو وثيقة تاريخية على وقوع حادثة الإسراء , أما حادثة المعراج فقد أكدتها الآيات (1-18) في مطلع سورة "النجم" , وهي من خوارق المعجزات التي أخبرنا بها الله- سبحانه وتعالى- في محكم كتابه وهو خير الشاهدين وفي ذلك يقول : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى *) (النجم: 1- 18) وتعتبر رحلة الإسراء والمعراج أعظم معجزة حدثت في تاريخ البشرية كلها. فلم يسبق لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل أن طوي له المكان وأوقف له الزمان كما حدث مع خاتم الأنبياء والمرسلين ( صلى الله عليه وسلم ), كما لم يسبق لنبي من الأنبياء أن عرج به إلى سدرة المنتهى عبر السموات السبع وشرف بالمثول بين يدي الحضرة الإلهية وتلقى من التكريم ما لقيه. وكان في هذه الرحلة المباركة من معاني وحدانية الإله الخالق, ووحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء ما تجلى في الربط بين الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك, وما تجسد في إمامته لجميع الأنبياء والمرسلين ( صلوات ربي وسلامه عليه وعليهم أجمعين ). كذلك أكدت هذه الإمامة أن رسالته الخاتمة قد نسخت ما قبلها من رسالات, وأصبحت نور الله في الأرض وهدايته لجميع الخلق, فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:44 am | |
| وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ ...... تم تم نبيلةيُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-12-18 بسم الله الرحمن الرحيم من أسرار القرآن :(373) - ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) (الأنفال: 30) .بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار
هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة "الأنفال" , وهي سورة مدنية , وآياتها خمس وسبعون (75) بعد البسملة, وقد سميت بهذ الاسم (الأنفال) جمع (نفل) بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي , إشارة إلى الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبرى . وقد سميت غنائم الحرب بالأنفال احتقارا لشأنها مقارنة بالأهداف الرئيسة للجهاد في سبيل الله ومنها رد الظالم , وحماية الدين , والعرض, والأرض, وطلب الشهادة في سبيل الله , وهي قضايا تهون أمامها أية مكاسب مادية من مثل الغنائم .ويدور المحور الرئيسي لسورة "الأنفال" حول عدد من التشريعات الإلهية للقتال في الإسلام , انطلاقا مما جرى في غزوة بدر الكبرى . هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة , وما جاء فيها من التشريعات وركائز العقيدة الإسلامية , ونستعرض هنا لمحة الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة رقم (30) من سورة "الأنفال" والتي اتخذناها عنوانا لهذا المقال .من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة يقول ربنا- تبارك وتعالى- في سورة "الأنفال" مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ *)(التوبة:30).وسورة التوبة مدنية بمعنى أن هذه الآية الكريمة أنزلت بالمدينة أي بعد حادثة الهجرة بقرابة السنتين لتستعرض الفارق الكبير بين وضع المسلمين في مكة قبل الهجرة , وموقفهم في المدينة المنورة بعد الهجرة. فقد كان وضعهم في مكة قبل الهجرة وضع المستضعف المضطهد من قبل مشركي مكة, وأصبح وضعهم في المدينة موضع القوة والعزة والمنعة بعد انتشار الإسلام بين أهل المدينة وتعهدهم بأن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أنفسهم, وتحقق هذا التحول في حياة المسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر الكبرى.والآية الكريمة التي نحن بصددها تصور هذه النقلة الهائلة التي تمت بتوفيق الله ورعايته, وبحسن التدبير والتخطيط من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبقوة إيمان أصحابة بنبوته ورسالته, وشدة حبهم له, وتفانيهم في الوفاء له ولدعوته.وهنا تأتي هذه الآية الكريمة لتصور موقف مشركي مكة وهم يبيتون لرسول الله- صلى عليه وسلم- ويتآمرون عليه لمنعه من اللحاق بالمسلمين في المدينة حتى يمنعونه من تكوين قاعدة إسلامية يمكن أن تحاربهم وأن تنتصر عليهم.وفي التعليق على هذه الآية الكريمة (رقم 30 من سورة الأنفال) يذكر الشهيد سيد قطب : ما نصه : " إنه التذكير بما كان في مكة, قبل تغير الحال وتبدل الموقف , وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل, كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر ..., ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة, يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق, في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمانينة.... وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم! لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا... ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا؛ ليتفرق دمه في القبائل؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها, فيرضوا بالدية , وينتهي الأمر !"وتروي لنا كتب التاريخ الإسلامي أنه بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية انتشر الإسلام في يثرب حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وقد دخله دين الله, فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسلمي مكة بالهجرة إليها, ورأى مشركوا قريش في ذلك خطرا جسيما عليهم لتركز المسلمين فيها واتخاذهم من الذين أسلموا من أهل يثرب منعة ومن أرضها حصنا, فحذروا من خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم لأنه لو وصل إلى تلك المدينة لجمع المسلمين لمحاربة أهل الكفر والشرك والضلال في شبه الجزيرة العربية, وكان على رأسهم وفي مقدمتهم قريش , فتنادوا إلى اجتماع في دار الندوة (وهي دار قصي بن كلاب التي كان مشركو قريش لا يقضون أمرا إلا فيها) من أجل التشاور في أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في محاولة لمنعه من الوصول إلى يثرب بأي ثمن. وبعد تداول الأمر , تكلم أبو البحتري بن هشام مقترحا حبسه حتى الموت , فرفض اقتراحه خشية أن يعيرهم العرب بذلك, فاقترح الأسود بن عمرو نفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألى خارج مكة , فردوا عليه اقتراحه قائلين: ليس هذا برأي , ألم تروا حسن حديثة , وقوة منطقه , فإذا حل عند قوم لا يلبث أن يستولي على نفوسهم, ويحل في سويداء قلوبهم.بعد ذلك تحدث أبو جهل (عمرو بن هشام, زعيم بني مخزوم) قائلا: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد؛ قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى , شابا, جليدا, نسيبا, وسيطا فينا, ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما , فيمدوا إليه (أي يذهبون حيث محمد) فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه , فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل , فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا , فرضوا منا بالعقل (أي بالدية) فعقلناه لهم. استحسن الحضور رأي أبي جهل , وقرروا إخراجه إلى حيز التنفيذ . ولذلك قال- تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) وفي التعليق على ذلك ذكر الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "...تشاورت قريش ليلة بمكة , فقال بعضهم : إذا أصبح فاثبتوه بالوثاق- يريدون النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم :بل اقتلوه .وقال بعضهم بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك؛ فبات علي-رضي الله عنه- على فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج النبي حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي فلما أصبحوا ثاروا إليه, فلما رأوه عليا رد الله- تعالى- عليهم مكرهم , فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري ! فاقتصوا أثره, فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم, فصعدوا في الجبل, ومروا بالغار, فرأوا على بابه نسج العنكبوت, فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه... فمكث فيه ثلاث ليال".وفي ذلك يروي ابن إسحق قائلا : " فأتى جبريل-عليه السلام- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال؛ لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه, فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي, وتسج ببردي هذا الأخضر, فنم فيه, فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم", وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينام في برده ذلك إذا نام ".وأضاف ابن اسحق قائلا :" وخرج عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذ حفنة من تراب في يده , وأخذ الله- تعالى- على أبصارهم عنه حتى لا يرونه , فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله- تعالى- ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ *)(يس: 1-9), حتى فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هؤلاء الآيات, ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم, فقال: ما تنتظرون ههنا ؟ قالوا: محمدا؛ قال خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد, ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا, وانطلق لحاجته, أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب, ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده. فلم يبرحوا ذلك حتى أصبحوا, فقام علي- رضي الله عنه- عن الفراش, فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا " .وفي ختام هذه الآية الكريمة (رقم 30 من سورة "الأنفال") يقول ربنا- تبارك وتعالى-: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ *) وفي ذلك تجسيد لمكر مشركي قريش وتآمرهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليثبتوه بالوثاق أو بالإثخان بالجراح حتى يقعدوه تماما عن الحركة وهو كناية عن السجن إلى الموت, أو يقتلوه بأيدي ممثلين لجميع القبائل حتى يتفرق دمه بينهم فتقبل عشيرته الدية, ويرتاح المشركون من أمره, أو يقومون بنفيه إلى خارج مكة حتى يرتاحوا من المصادمة مع دعوته. والآيات تخاطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مشيرة إلى فضل الله- تعالى- عليه في هذه المحنة قائلة له: إنهم يدبرون لك هذا التدبير السيئ والله من ورائهم محيط يدبر لك السلامة من بين أيديهم, ويمكر بهم, ويبطل كيدهم, ويفشل مخططاتهم وهم لا يشعرون. وشتان بين تدبير الخالق وتدبير المخلوقين , فتدبير الله- تعالى- هو الأعز والأعلى والأغلب في كل حال والله قادر على أن يرد كيد المشركين إلى نحورهم, وأن يحبط مكرهم, ويفشل كل خططهم, وفي المقابل يحفظك يا محمد من شرورهم وكيدهم ومخططاتهم, وأن ينجيك من كل ذلك ويعاقب مشركي قريش على وقوفهم في وجه دعوة الله بتكبر وتجبر واستعلاء كاذب وظلم بين, ويكتب لك يا محمد النصر عليهم والتمكين في الأرض حتى تقيم دولة الإسلام التي تحمل أمانة التبليغ بدين الله إلى أهل الأرض أجمعين.وهذه الآية الكريمة تذكر المسلمين في كل وقت بفضل هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة وهي تمثل ثاني أهم حدث في تاريخ الإنسانية, بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- تلك البعثة التي أعاد الله- تعالى- بها نور الهداية الربانية إلى أهل الأرض من جديد بعد أن كانوا قد فقدوها تماما بضياع كل صور الوحي السابقة, وغرق البشرية في بحار من المعتقدات الفاسدة, ومن كثرة صور الشك والشرك والفساد والضياع, وغمر الأرض ببحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار, وبالمظالم المستترة والمعلنة, والتحلل الكامل من جميع ضوابط السلوك.والآية الكريمة تمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله حيث قام جبريل- عليه السلام- بإخبار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكل ما تداوله صناديد قريش في دار الندوة, وبالموعد الذي ضربوه لحصار بيته من أجل قتله, وبأمر الله- تعالى- له بالهجرة في تلك الليلة وإلا كيف كان ممكنا له النجاة من هذه المؤامرة الخسيسة.والدروس المستفادة من هجرة رسول الله هي أكثر من أن تحصى أو أن تعد, ولكن يكفي أن نشير إلى أنه كان منها ما يلي:(1) التأكيد على حتمية الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل, وعلى أن الحق لا ينتصر لمجرد كونه حقا بل يحتاج إلى المؤمنين به الذين يجاهدون في سبيله, ويبذلون الغالي والرخيص من أجل الانتصار له, والدفاع عنه, وإعلاء كلمته في الأرض.(2) ضرورة إحكام التخطيط في كل أمر, والأخذ بالأسباب بعد جميل التوكل على الله- تعالى- والثقة في تأييده ونصره.(3) اليقين في معية الله- تعالى- ورعايته لعباده المؤمنين به, والمتوكلين حق التوكل عليه, بعد الأخذ بالأسباب كلها, ثم الرضى بقضاء الله وقدره.(4) ضرورة الوفاء بالأمانات وبالعهود والمواثيق تحت جميع الظروف, مع المؤمن والكافر على حد سواء. (5) التأكيد على إمكانية استخدام التورية الصادقة في أوقات الأزمات.(6) ضرورة الإيمان بوقوع المعجزات للأنبياء والمرسلين, ووقوع الكرامات لعباد الله الصالحين.(7) اليقين بنصر الله رغم ما قد يلقاه المسلم من الابتلاءات والشدائد لأنها هي الطريق إلى النصر. وعلى المسلمين في كل احتفال بذكرى هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يتذكروا ما تعرض له هذا النبي والرسول الخاتم, وأصحابه الكرام من ابتلاءات وشدائد من اجل نشر دين الله في الأرض, وإقامة دولته في المدينة المنورة, وتربية جيل من المسلمين الصادقين تحت ظل هذه الدولة الناشئة, والانطلاق منها إلى اجتثاث جذور الكفر والشرك والضلال من كل جزيرة العرب, ثم التحرك المدروس بعد ذلك لفتح نصف المعمورة في أقل من قرن من الزمان, وحمل الإسلام العظيم ألى ملايين البشر في رقعة امتدت من الصين شرقا ألى بلاد الأندلس غربا بالكلمة الطيبة, والحجة البالغة, وبمكارم الأخلاق وأفضل السلوكيات.وإذا كانت هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقيدة بحدود الزمان والمكان, فإن مبادئ الهجرة تبقى في زمن الفتن الذي نعيشه تجسيدا لحتمية فرار المسلم إلى الله ورسوله من وسط ضلال الحضارات المادية المعاصرة وذلك انطلاقا من أقوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العديدة والتي نذكر منها ما يلي:(1) "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " ( متفق عليه ).(2) "....والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه " ( متفق عليه).(3) " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة , ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " ( كل من الإمامين ابو داود والنسائي ).(4) "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو " ( كل من الأئمة أحمد, النسائي وابن حبان).(5) "من مات ولم يغز, ولم يحدث نفسه به, مات على شعبة من النفاق" (الإمام مسلم).وإذا وعى مسلمو اليوم الدروس المستفادة من هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخرجوا من حالة التمزق والتشرذم التي يعيشونها اليوم والتي أدت بهم إلى التخلف والتراجع والانهزام في كل منحى من مناحي الحياة, ولانتقلوا من مرحلة الاستضعاف والإذلال والاستغلال والاضطهاد التي يرزحون تحتها اليوم إلى مرحلة القوة والمنعة والنصر المؤزر بتأييد من الله-تعالى-, وذلك بجمع الكلمة, ولم الشمل, والتوحد على دين الله, ولو حققوا ذلك لعادوا إلى قيادة العالم من جديد, وتمكنوا من إنقاذه من الهاوية التي يتردى فيها اليوم في ظل تقدم علمي وتقني مذهل, وانحسار ديني وأخلاقي وسلوكي مدمر, وما ذلك على الله بعزيز, وهو – تعالى – يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته ألى يوم الدين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:45 am | |
| (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ تم تم نبيلوَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ*) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-10-09 بسم الله الرحمن الرحيم من أسرار القرآن :(364) (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ*) (لقمان: 12 )بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الثاني من سورة "لقمان", وهي سورة مكية, وآياتها أربع وثلاثون (34) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها مرتين إلى العبد الصالح "لقمان الحكيم" وهي شخصية لا يعرف المؤرخون شيئا عنها, ومن هنا كان في ذكر القرآن له وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر كتاب الله . وغالبية الذين كتبوا عن "لقمان الحكيم" من علماء المسلمين يجمعون على أنه لم يكن نبيا, وقليلون هم الذين يرجحون نبوته لتسمية إحدى سور القرآن باسمه, ولمدح الله – تعالى- له في آيتين متتاليتين من هذا الكتاب العزيز . وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع متفقون على أنه كان من أحناف زمانه, انطلاقا من دعوته إلى التوحيد الخالص لله- تعالى-, وإلى الالتزام بمكارم الأخلاق؛ واستنكاره لانحرافات الشرك بالله – تعالى – أو الكفر به , وللتكبر على الخلق والاستعلاء عليهم . والجميع يقرون بشهادة القرآن الكريم له بالحكمة وحسن الخطاب.ويدور المحور الرئيسي لسورة "لقمان" حول العقيدة الإسلامية- شأنها في ذلك شأن كل السور المكية- كما تشير هذه السورة الكريمة إلى ضرورة الالتزام بالضوابط الأخلاقية والسلوكية المميزة للعبد المؤمن, وتؤكد على جزاء كل من المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة, وتستشهد في هذا السياق بعدد من الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق, والشاهدة للخالق- سبحانه وتعالى- بالإلوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, وبالقدرة على البعث, والحشر, والحساب والجزاء, وختمت هذه السورة الكريمة بالإشارة إلى عدد من أمور الغيب التي استأثر بها علم الله- تعالى-. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "لقمان" وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا على الإعجاز الإنبائي والتاريخي والتربوي في ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح "لقمان", ولما آتاه الله- تعالى- من الحكمة التي انعكست على نصائحه لابنه, وهي نصائح تشكل منهجا تربويا كاملا في تنشئة الأبناء.من أوجه الإعجاز في ذكر القرآن الكريم للعبد الصالح المعروف باسم "لقمان الحكيم" أولا: الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر اسم "لقمان" :تعتبر إشارة القرآن الكريم إلى العبد الصالح "لقمان" وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله الكريم, لأنه لم يرد لهذا العبد الصالح ذكر في أي من العهدين القديم أو الجديد, وذكر القرآن الكريم له يملأ ثغرة تاريخية في زمن عبد الله ونبيه داود- عليه السلام- حيث قيل عن "لقمان" أنه كان قاضيا في زمن ذلك النبي, وأن اسمه كان "لقمان بن عنقاء بن سدون" كما ذكر ذلك ابن كثير (في البداية والنهاية, ج 2 , ص 29) . وقال عنه السهلي ( في كتابه المعنون: "التعريف والإعلام" ص 100, 101 ) أنه كان نوبيا سكن مدينة أيلة على خليج العقبة (والتي عرفت بعد ذلك باسم "أم الرشراش" تحت الحكم المصري ثم احتلها الصهاينة في حرب 1956م, وغيروا اسمها إلى إيلات ) ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن "لقمان" كان عبدا حبشيا . ويصف هؤلاء الرواة أن "لقمان الحكيم" كان رجلا ذا عبادة خاشعة, وعبارة ساطعة, وإيمان عميق, وكان كثير التفكر, شديد الورع, حسن اليقين بالله, وأنه كان عف المطعم, عف الجوارح, وعف اللسان, فأحبه ربه, ومن عليه بالحكمة.وتعرف الحكمة بشأنها الفقه في الدين, والإصابة في الحكم, وموافقة الحق, والنجاح في وضع الأمور في نصابها بلا مبالغة ولا تقصير. وقد تميز لقمان بالعدل, والعلم, والحلم, وبمداومدة الشكر لله, ولذلك تمتع بقدر عال من الاحترام في مجتمعه, وبمنزلة رفيعة بين أقرانه حتى اشتهر باسم "لقمان الحكيم", وامتدحه القرآن الكريم بقول الحق- تبارك وتعالى- عنه : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان:12). كذلك امتدح القرآن الكريم كل من أوتي الحكمة, وذلك بقول ربنا- سبحانه وتعالى- ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا ً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ *) (البقرة:269).ثانيا: من أوجه الإعجاز التربوي في عرض القرآن الكريم لقصة "لقمان الحكيم": (1) التأكيد على وحدانية الخالق العظيم, والإقرار بالعبودية له وحده وهي أساس العقيدة الحقة التي تشكل قاعدة المنهج الرباني في بناء الإنسان, وفي تربيته التربية الإسلامية الصحيحة التي توفر له الطمأنينة والراحة النفسية والعقلية وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالى-: ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ*) (لقمان:13). وذلك لأن الشرك بالله هو أولى بوابات الشيطان إلى الإنسان, وأحد مداخله الرئيسية التي أضل بها البشرية من لدن قوم نوح إلى يومنا الراهن, وسيظل كذلك حتى قيام الساعة.(2) وجوب بر الوالدين حتى لو كانا مشركين بالله – على خطورة الشرك, وانحراف المشركين عن جادة الصواب- : تؤكد الآيات في سورة لقمان على فضل الوالدين, وعلى تعظيم حقوقهما على أبنائهما, وتأكيد واجب الشكر لهما, والعرفان بأفضالهما, وذلك من أجل استقرار كل من الفرد والمجتمع في البيئة الإسلامية وانتظام الحياة فيها . ولذلك جعلت الآيات في سورة "لقمان" الشكر لهما مقرونا بالشكر لله- تعالى- صاحب الفضل والمنة على جميع خلقه وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالى-: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً و َاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* ) (لقمان: 14-15).(3) وجوب مراقبة الله في السر والعلن : وذلك لأن علم الله- تعالى- محيط بكل شئ, وأن الله- سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء . وإذا أيقن العبد منا ذلك كان في استشعاره لمراقبة الله خير ضابط لسلوكه. وبذلك يوصي "لقمان الحكيم" ابنه قائلا : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ *). (لقمان:16).(4) وجوب مخاطبة الأبناء بالخطاب الذي يستميل قلوبهم فالخطاب إلى الابن بصيغة (يا بني) يحمل من معاني الفهم العميق لطبيعة النفس الإنسانية, ومن مشاعر الحب , والحنان, والشفقة والعطف, ما يمكن أن يستميل قلب الولد , ويحبب إليه ما يطلبه منه من مختلف الأوامر والنواهي , ومن جميع الوصايا والآداب . ويعبر ذلك عن مدى الحكمة التي من بها ربنا- تبارك وتعالى- على عبده "لقمان" , ومدى عمق فهمه للطبيعة البشرية , خاصة في مراحلها الأولى .(5) وجوب فهم المتربي لحقيقة رسالته في هذه الحياة الدنيا : عبدا لله- تعالى- مطالبا بعبادة ربه بما أمر , ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وبإقامة شرع الله وعدله فيها : ولذلك فإن لقمان – عليه السلام – بعد أن علم ابنه العقيدة الصحيحة القائمة على الإيمان الحق بالله الخالق, وبالتوحيد الكامل لجلاله , وبتنزيهه – جل شأنه – عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, واليقين بأن علم الله محيط بكل شيء, وأن الله – تعالى – لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء , طالبه بإقامة الصلاة, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وبالصبر على ما يمكن أن يناله في هذا السبيل لأن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره, ومؤكدا له أن ذلك من عزم الأمور, أي من الأمور الواجبة, المؤكدة على حقيقة الإيمان, وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ*) ( لقمان : 17).فصلاح المجتمعات الإنسانية كلها قائم على التواصي بالحق , والتواصي بالصبر , ومن معاني ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والصبر على ذلك كله من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل , ولذلك أوصانا المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بقوله الشريف "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه , ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " (الترمذي والبيهقي ) وفي رواية أخرى : " لتأمرن بالمعروف , ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم , ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم" ( الهيثمي ).ثالثا : من الإعجاز الأخلاقي في عرض القرآن الكريم لقصة لقمان الحكيم :توحي القصة بوجوب الالتزام بمكارم الأخلاق وتعويد الأبناء والبنات على ذلك منذ بدء الإدراك حتى تثبت تلك القيم راسخة في قلوبهم وعقولهم , وتصبح جزءا من تكوينهم النفسي والعقلي حتى لا ينفصلوا عنها ولا تنفصم منهم تحت ظروف الحياة المختلفة من الضيق والسعة , والعسر واليسر , وفي ذلك يوصي لقمان – عليه السلام – ابنه بقوله : (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ * ) (لقمان 18-19)أي لا تزدرى الناس بالإعراض عنهم , ولا تتبختر في مشيتك استعلاء وتكبرا عليهم , لأن الله – تعالى – لا يحب المتكبرين المتغطرسين على عباده .وهتان الآيتان تشكلان منهحجا تربويا صحيحا في تنشئة الأبناء , يعودهم على التواضع وعدم التكبر على الآخرين أو الإعراض عنهم , وقد عبر القرآن الكريم الذي يشبه به المتكبر على غيره بتصعير الخد ( لأن أصل (الصعر) هو داء يصيب الإبل في أعناقها أو في رؤوسها فتلفت أعناقها عن رؤوسها ) والمشي في الأرض مرحا كناية عن الاستعلاء على الخلق, والتكبر والاستعلاء على الخلق من الصفات السيئة التي تهلك صاحبها في الدنيا وتورده العذاب في الآخرة, وذلك لأنها تكره الناس فيه, وتصدهم عنه وتولد البغضاء قي قلوبهم نحوه, كما توجب غضب الرب والطرد من رحمته, وذلك لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " .... ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر " ( مسلم , وابن ماجة , والترمذي ), ويقول " .... وما زاد الله رجلا بعفو إلا عزا, وما تواضع أحد لله إلا رفعه " ( الترمذي ).ومن سمات التكبر على الخلق رفع الصوت فوق الحد المألوف , ولذلك أوصى لقمان ابنه بخفض صوته عند مخاطبة الآخرين , وبغض إليه رفع الصوت مذكرا إياه بأن أنكر الأصوات هي تلك الأصوات الحادة المرتفعة النبرة التي تشبه صوت الحمير , والتي أثبتت الدراسات العلمية أن آذان البشر تتأذى بسماعها وذلك من مثل نهيق الحمير الذي يمثل أعلى وأحد نبرة لحيوان يحيا على سطح اليابسة إذ تتجاوز شدة أصواتها مائة ديسيبل والديسيبل هو وحدة قياس شدة الصوت, مما ينهي عن رفع الصوت في مخاطبة الآخرين.هذه الضوابط التربوية والأخلاقية والسلوكية التي نصح بها " لقمان الحكيم " ابنه هي قواعد تربوية وضوابط أخلاقية: لكل من الفرد والمجتمع المسلم كما يريدهما الله – تعالى – من عباده المؤمنين , وهي دروس وعبر عظيمة لكل قارئ لكتاب الله تخرجه عن الأطر المادية الجامدة التي وضعتها الحضارة المعاصرة للإنسان وحبسته في داخلها, ولم تدع له متنفسا للعيش بالقيم الإنسانية العليا التي وضعها ربنا – تبارك وتعالى – لعباده, منذ اللحظة التي خلق فيها أبوينا آدم وحواء – عليهما السلام – والتي آن الأوان لعودة الناس إليها هروبا من جفاف الأطر المادية القاهرة التي فرضت عليهم.وهذه الوصايا التي أوردها القرآن الكريم على لسان لقمان الحكيم لابنه هي من أوجه الإعجاز التربوي والأخلاقي في كتاب الله , كما أن مجرد ذكر قصة هذا العبد الصالح " لقمان الحكيم " يمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في هذا الكتاب العزيز وهذه الأوجه لمما يشهد له بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية . فالحمد لله على نعمة الإسلام , والحمد لله على نعمة القرآن , والحمد لله على بعثة خير الأنام , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:45 am | |
| (قَال فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِي) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-06- تم نبيلة19بسم الله الرحمن الرحيم من أسرار القرآن: (349)- (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ*) (القصص:76)بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات الثلث الأخير من سورة طه, وهي سورة مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون(135) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم تكريما لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.لأن( طه) اسم من أسمائه الشريفة بدليل توجيه الخطاب إليه مباشرة بعد هذا النداء, وإن اعتبر نفر من المفسرين هذين الحرفين( طه) من المقطعات الهجائية التي استهل بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم.هذا وقد سبق لنا استعراض سورة( طه) وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر هذه السورة المباركة لواقعة حدثت من شخص اسمه( السامري) في زمن النبيين الكريمين موسي وهارون( عليهما السلام). وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي
في ذكر القرآن الكريم لواقعة "السامري" جاءت قصة السامري مع قوم موسي( عليه السلام) مفصلة في الآيات التالية:1. ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداًّ لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * َلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ *) (الأعراف:148 ـ154).2. (َمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى* قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ* فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي* لُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ* أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً* وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى* قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي*قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ* قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً*إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً *) ( طه:83 ـ98).وواضح من هذه الآيات أن الله ـ تعالي ـ كان قد دعا موسي ـ عليه السلام ـ لميقات علي الجبل ليتلقي رسالة الله ـ تعالي ـ إلي بني إسرائيل فصعد موسي إلي الجبل تاركا قومه في أسفله بعد أن وكل بهم أخاه هارون ـ عليه السلام ـ وبعد أن تلقي موسي الألواح من ربه أخبره ـ سبحانه وتعالي ـ أن قومه قد تعرضوا للابتلاء من بعده فما كاد موسي يتركهم في رعاية أخيه هارون حتي فتنهم السامري عن عبادة الله ـ تعالي ـ وحده وتنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله فأخرجه عن ذلك إلي عبادة عجل له خوار صنعه من ذهب نساء بني إسرائيل ولم يكن لموسي علم بذلك, حتي لقي ربه, وتلقي الألواح وبها ركائز الإسلام الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالي ـ من عباده دينا سواه.ويعود نبي الله ورسوله موسي بن عمران إلي قومه غضبان أسفا لعودة قطاع من بني إسرائيل إلي الشرك بالله وعبادة الأصنام بعد أن أنقذهم الله ـ تعالي ـ من الاستعباد والذل والمهانة التي كانوا يعيشون تحتها في ظل حكم وثني جاهلي ظالم علي أرض مصر, ونجاهم بمعجزة خارقة للعادة عند عبورهم خليج السويس, وأغرق أعداءهم المطاردين لهم وعلي رأسهم فرعون وجنوده أمام أنظارهم, وفجر الأرض عيونا بالماء العذب تحت أقدامهم بمجرد عبورهم لمياه الخليج, ونزل عليهم المن والسلوي رحمة من عنده, وحذرهم من مخالفة أوامره فيحل عليهم غضبه وينزل عليهم سخطه, ومن عليهم بمواعدة موسي ـ عليه السلام ـ بعد خروجهم من وادي النيل أن يأتي إلي جبل الطور بعد أربعين ليلة من الصلاة والقيام والصيام يتعبد ربه كي يكون متهيئا لهذا اللقاء النادر الذي يتلقي فيه الوحي من الله ـ تعالي ـ مسموعا ومدونا في الألواح, وتنزل المن, وهو من المواد السكرية التي تتجمع علي سيقان الأشجار كنتيجة لنز العصارة الغذائية من الأوعية الخشبية للأشجار, ثم جفافها علي تلك السيقان الشجرية, وإرسال أفواج السلوي وهو طائر السماني مما شكل وجبة غذائية كاملة من الكربوهيدرات والبروتينات الشهية والمغذية في قلب الصحراء الجرداء في قلب سيناء, وهي من المعجزات الإلهية الحقة, ويذكرهم الله ـ تعالي ـ بتلك النعم التي أفاض بها عليهم, ويذكرهم بها موسي حين رجع إليهم غضبان أسفا, لمقابلتهم تلك النعم الغامرة التي أفاء الله ـ سبحانه وتعالي ـ بها عليهم ثم يقابلونها بالانحدار من التوحيد إلي الشرك. ومن تنزيه الله ـ تعالي ـ عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله إلي الانحطاط بمدلول الألوهية إلي تمثال عجل من ذهب مسروق له خوار ويصفونه بأنه الا ههم وإله موسي الذي نسيه عندهم وذهب لملاقاته علي الجبل, يطلبه هنالك...!راح موسي يعنف قومه ويوبخهم علي ما اقترفوه من كفر بالله, ويلوم أخاه هارون ويؤنبه علي تساهله مع الذين أشركوا من قومه علي فظاعة الجرم الذي كانوا قد اقترفوه, علي الرغم من تعهدهم له بالبقاء علي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ بغير تغيير لا ابتداع. وعلي الرغم من تحذير موسي لهم من محاولة تقليد عبدة الأصنام حينما مروا علي قوم يعكفون علي أصنام لهم فطالبوا موسي نبي الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله طالبوه أن يتخذ لهم صنما يعبدونه من دون الله, فقال لهم: (...إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (طه:138) وفي الرد علي تقريع موسي للذين أشركوا من قومه أجابوا برد أسوأ من فعلتهم النكراء قائلين: لقد حملنا أكداسا من حلي المصريات كانت مستعارة منهن بواسطة نسائنا, وخرجن بها قبل المطالبة بردها. فألقين بها وتخلصن منها لحرمتها فالتقطها السامري, وسول له شيطانه أن يصوغ منها عجلا أجوفا جعل له عددا من المنافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتا كصوت الخوار, وهذا كله من نفث الشيطان ووساوسه وإغواءاته, فما كاد ضعاف النفوس من بني إسرائيل أن يروا ذلك العجل الذي لا يملك لهم نفعا ولا ضرا حتي خروا له ساجدين, ونسوا ربهم الذي خلقهم, ونجاهم ورزقهم...! فقال لهم نبيهم هارون إن ما فعلوه هو من الشرك الذي يخرجهم من الملة, ونصحهم بالرجوع عما وقعوا فيه من معاص, وأن يستغفروا الله ـ تعالي ـ من سوء أعمالهم ويتوبوا إليه, ولكنهم لم يستمعوا إلي نصح هارون, وطالبوه بالانتظار حتي يرجع إليهم موسي لأن الشيطان كان قد صور لهم أن هذا العجل الجسد الذي له خوار هو الا ههم وإله موسي الذي راح يبحث عنه علي الجبل, متخيلين أنه نسي الطريق إلي ربه وتاه عنه.وعندما رجع موسي إليهم غضبان أسفا, واستمع إلي حجتهم التافهة, التفت إلي أخيه هارون مؤنبا إياه علي ترك هؤلاء المشركين من قومه سادرين في غيهم, وحاول هارون إطفاء غضب أخيه مستجيشا عاطفة الرحم بينهما, معتذرا بأنه لم يشأ معالجة الأمر بشيء من العنف انتظارا لعودته من لقاء ربه خشية أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا, وقد سبق أن أمره موسي بالمحافظة علي قومه وبألا يحدث منهم أمرا حتي يرجع إليهم.عندئذ اتجه موسي ـ عليه السلام ـ بحديثه إلي السامري صاحب الفتنة والغواية في بني إسرائيل, متسائلا عن مبررات غوايته لقومه, فأجاب متعللا بأنه رأي جبريل ـ عليه السلام ـ في صورته الذي ينزل بها علي الأرض, فقبض قبضة من التراب الذي داس عليه أو داس عليه فرسه, فألقاه علي العجل الذي كان قد صاغه من الذهب المسروق, فصار له خوار. والقرآن الكريم لا يقرر حقيقة ما حدث ولكنه يسجل رد السامري الذي قاله في محاولة للتملص من المسئولية, وتبرير ما حدث منه.ولكن موسي ـ عليه السلام ـ أعلنه بالطرد من جماعته طيلة حياته, ووكل أمره بعد ذلك إلي الله ـ تعالي ـ يحاسبه بعدله المطلق, وقال له: اذهب مطرودا ملعونا معزولا لا يمسك أحد, ولا تستطيع أن تمس أحدا من عباد الله, وأن لك موعدا مع خالقك في يوم الحساب لتلقي جزاءك علي ما اقترفت من جرائم ولن تخلف ذلك الموعد فإنه واقع لا محالة, وأما عجلك الذي عبدته لنفر من قومك من دون الله فهاأنذا أحرقه وأنسفه وألقيه في ماء البحر لأثبت لك سخافة ما سولت لك الشياطين بعبادته وهو لا يستحق من ذلك شيئا لأنه لو كانت له أية قدرة لدافع عنك ذلك التمثال الأبكم الأخرس الذي لا يضر ولا ينفع أو دافع عن ذاته.وفي تلك اللحظة الحاسمة يؤكد موسي لقومه وللناس أجمعين حقيقة الألوهية الجديرة بإفرادها بالعبادة فيقول: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) ( طه:98).من هنا فإن رواية القرآن الكريم لحادثة السامري بعد أن ذهب النبي موسي بن عمران للقاء ربه تمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله, ويشهد للنص القرآني بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, كما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام رب العالمين الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه ( اللغة العربية) علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:46 am | |
| (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ .... تم نبيلأَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-06-12 بسم الله الرحمن الرحيم من أسرار القرآن: (348)- (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*) (القلم:17)بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة القلم وهي سورة مكية وآياتها اثنتان وخمسون(52) بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم القلم وبما يسطرون وذلك تعظيما للعلم وتكريما لأدواته. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وفي مقدمتها الإيمان بالله ـ سبحانه وتعالي ـ ربا واحدا أحدا فردا صمدا بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولدا والتصديق بجميع أنبيائه ورسله وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبدالله سيد الأولين والآخرين من بني آدم, واليقين بحتمية الآخرة, ومافيها من أهوال البعث, والحشر, والعرض, والحساب والجزاء بالخلود إما في الجنة أبدا, أو في النار أبدا.هذا وقد سبق لنا استعراض سورة القلم وماجاء فيها من ركائز العقيدة, ونركز هنا علي وجه من أوجه الإعجاز في ذكر قصة أصحاب الجنة للاعتبار بما جاء فيها من دروس وعبر. من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر أصحاب الجنة جاءت هذه القصة في الرد علي أبي جهل( عمرو بن هشام) الذي رفض الإسلام عصبية وتكبرا وتجبرا, وانطلاقا من كونه هو زعيم بني مخزوم من قريش وكون المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من بني عبد مناف, وذلك كما ورد من قصته مع كل من الأخنس بن شريق, وأبي سفيان بن حرب, حين خرج ثلاثتهم منفردين يستمعون القرآن خفية من تلاوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي مدار ثلاث ليال, وهم في كل ليلة يتواعدون علي عدم العودة خشية أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء من الميل إلي قبول الإسلام دينا.فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من القرآن الكريم كان جوابه: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتي إذا تجاثينا علي الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتي ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!.وكان من دوافع رفض مشركي قريش دين الإسلام أن التوحيد الذي جاء به هذا الدين السماوي يهدم كل صور الشرك التي كانوا هم وأهل الأرض ـ في غالبيتهم الساحقة ـ قد وقعوا فيها إلي آذانهم حتي ضلوا وأضلوا, وملأوا الأرض انحرافا وفسادا.وكان من دوافع مقاومة كفار ومشركي قريش لدعوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عدد من الاعتبارات الاجتماعية التي كان في مقدمتها الخوف من انتزاع الزعامة من بين مشايخهم في بيئة قبلية تجعل للزعامة الاجتماعية كل الاعتبار, وذلك لأن رسول الله ـ مع علو قدره, وشرف نسبه في قريش ـ من قبل أن يأتيه الوحي ـ لم تكن له زعامة اجتماعية فيهم, بينما كانت الزعامات الاجتماعية موزعة بين مشايخ كل من مكة والطائف, وكانوا يخشون من انتزاع تلك الزعامات من أيديهم بانتشار الاسلام, ولذلك قال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي لسانهم: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف:31) خاصة وأن القرآن كان يتنزل بالدعوة إلي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ وبتسفيه كل صور الشرك من عبادة الأصنام والأوثان والقمر والنجوم والكواكب والملائكة والجن, وبتسفيه كل الطقوس المبتدعة المرافقة لذلك, ومن هنا بدأ الكفار والمشركون في مقاومة الدعوة الإسلامية, وفي التطاول علي شخص النبي الكريم, وفي تعريض القلة التي آمنت معه إلي أشد ألوان التعذيب, وأغراهم بذلك كثرة أموالهم وأولادهم, ونسوا أن ذلك كله من نعم الله عليهم, وماأشنع أن تقابل نعم الله ـ تعالي ـ بالكفر به وبالتطاول علي رسوله وعلي أوليائه.وللرد علي ذلك يضرب القرآن الكريم لهم مثلا بقصة أصحاب الجنة وهي قصة تذكر بعواقب البطر بالنعمة, وبأخطار مقابلتها بالاستعلاء والكبر بدلا من الحمد والشكر, وتؤكد أن ماوهبهم الله ـ تعالي ـ من أموال وبنين هو من ضروب الابتلاء لهم,, كما ابتلي أصحاب هذه القصة التي تكشف أحداثها عما وراءها من تدبير الله وحكمته, وإحاطة علمه وطلاقة قدرته.وتبدأ القصة بشيخ صالح كانت له جنة في الأرض, عبارة عن بستان ذي شجر يستر الأرض لكثرته, وقد تسمي الأشجار الساترة نفسها جنة أرضية وكان هذا الشيخ الصالح يخرج زكاة ثمار جنته بانتظام حتي وافاه الأجل المحتوم, وجاء أولاده من بعده فأغراهم الشيطان بالامتناع عن إخراج زكاة زروعهم, وأغواهم بذلك, وزينه في قلوبهم, فبيتوا الاستئثار بثمار تلك الحديقة عند تمام نضجها.وعندما قرب موعد جني الثمار اجتمعوا بليل وقرروا الخروج إلي حديقتهم في الصباح الباكر ليقطفوا ثمارها ولا يتركوا منها شيئا لمستحقي الزكاة علي عكس ماكان يفعل أبوهم من قبل وتعاهدوا علي تنفيذ ذلك وأقسموا عليه, وباتوا ليلتهم وقد عقدوا النية علي تنفيذ مخططهم الشيطاني ولكن القرار الإلهي بتدمير جميع ثمار ذلك البستان كان قد سبقهم إليه, فنزل ببستانهم بلاء محيط فأصبح كالذي قد صرمت( أي: قطعت) ثماره فلم يبق منها شيء, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلاَ يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *) ( القلم:17 ـ20).وفي الصباح الباكر نادي بعضهم علي بعض من أجل الاستعداد لتنفيذ المخطط الذي أجمعوا كلمتهم عليه, ثم تحركوا في تستر وصمت كاملين حتي لا يدركهم أحد من الفقراء والمساكين فيتبعهم إلي البستان أملا في الحصول علي شيء مما يجمعون كما كانوا ينالون ذلك علي زمان أبيهم من قبل, وفي ذلك تقول الآيات: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ *) ( القلم:21 ـ25).و(الحرد) هو القصد أو التنحي, ومعني ذلك أنهم في الصباح الباكر ساروا إلي بستانهم سرا, متنحين عن قومهم, عازمين علي تنفيذ المخطط الذي رسموه, وعلي تنفيذ ماأجمعوا أمرهم عليه قاصدين ذلك ومصممين عليه, وهم واثقون من قدرتهم علي تنفيذه, وهو جمع ثمار البستان منفردين لا يراهم أحد من الناس, حتي لا يعطوا المساكين من قومهم شيئا منها ولكنهم عندما وصلوا إلي بستانهم لم يعرفوه لأنهم وجدوا ثماره قد قطعت بالكامل حتي لم يبق منها ثمرة واحدة علي فرع من فروعه أو علي الأرض من حول أشجاره, فظنوا أنهم قد ضلوا الطريق إلي بستانهم الذي لم يعرفوه لتجريده من ثماره تجريدا كاملا, ثم بالنظر فيما حولهم من معالم أدركوا أنه بستانهم, وتنبهوا إلي أنهم قد حرموا ثماره جزاء تآمرهم الشيطاني من أجل حرمان المساكين من حولهم من الحق الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم, فقال أرجحهم عقلا, وأعدلهم رأيا من بينهم: هلا ذكرتم الله وتبتم إليه, وتضرعتم له أن يغفر لكم خطاياكم بما بيتم من نوايا سيئة وقررتم حرمان مساكين قومكم من حقهم في ثمار بستانكم الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم فنالنا من العقاب الإلهي مانالنا! وكان قد نصحهم من قبل ألا يفعلوا ذلك فعصوه فأخذ بعضهم يلوم البعض الآخر علي ماكانوا قد خططوا له, وأقسموا عليه بقصد حرمان المساكين حقهم الذي فرضه الله ـ تعالي ـ حتي فاقوا من غفلتهم فتابوا إلي بارئهم, واستغفروه, وأنابوا إليه, وفي ذلك تقول الآيات: ( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ* كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *)( القلم:26 ـ33).فتاب هؤلاء الأبناء أصحاب الجنة إلي الله تعالي بعد أن رأوا عذاب مانع زكاة الزروع بأعينهم, وتعلق الآيات بأن العذاب الذي نزل بهم بإهلاك ثمار بستانهم وهم في قمة الثقة بقدرتهم علي قطعها وجمعها, فإن إهلاك كفار ومشركي قريش ليس بالأمر المستغرب خاصة وأنهم كانوا قد فجروا في كفرهم وشركهم, وبالغوا في معارضة الإسلام, وفي إيذاء خاتم أنبياء الله ورسله, وفي تعذيب القلة التي آمنت به في بدء دعوته.وماأحوج المسلمين اليوم إلي تأمل هاتين القصتين: قصة أصحاب الجنة الذين قد قرروا عدم إخراج زكاة زروعهم فعاقبهم الله ـ تعالي ـ بحرمانهم من ثمارها, ثم تابوا إليه, واستغفروه, وعادوا عن غيهم, وقصة كفار ومشركي قريش وقد أغرتهم وفرة أموالهم وكثرة أولادهم علي رفض الحق الذي جاء به نبيهم الصادق المصدوق, والأمين المؤتمن عندهم, فتهددهم ربهم بسوق قصة أصحاب الجنة اليهم, تهددهم بأن مايملكون من مال وعيال قابل للزوال في لمح البصر, أو في أقل من ذلك, وفي الوقت ذاته يطمئن المسلمين بأن كل مايرونه علي الكفار والمشركين من آثار النعم في المال والعيال إنما هو ابتلاء من الله ـ تعالي ـ له عواقبه في الدنيا إذا لم يؤدوا حقه ولم يتوبوا إلي بارئهم وينيبوا إليه ويتطهروا من دنس الكفر والشرك ولذلك يتهددهم القرآن الكريم بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ إليهم: (كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ( القلم33).ومن الدروس المستفادة من قصة أصحاب الجنة مايلي:1 ـ ضرورة محاربة الإنسان في ذاته لأمراض شح النفس, والبخل, لأن في المال حق معلوم للسائل والمحروم, وأن الذي لايخرج هذا الحق الشرعي معرض للعقاب الإلهي.2 ـ إن عدم إخراج الحق الشرعي من الزكاة مثل زكاة المال والزروع هو صورة من صور غمط الحق وبطر النعمة الذي لايرتضيه الله ـ تعالي ـ من عباده, وكما يكون ذلك الانحراف عن الحق مرضا في الأفراد يكون في المجتمعات التي إن ضلت عن منهج الله ـ تعالي ـ وانحرفت عنه فإن الله ـ تعالي ـ يبتليها بالحرمان من نعمة حتي تفيق من غيها, وتصحح من أخطائها, وتعود إلي كنف الله.3 ـ إن من وظائف ابتلاءات الناس في الدنيا هو إيقاظهم من غفلتهم واحياء ضمائرهم من أجل تصحيح مسار حياتهم.4 ـ إن الابتلاء كما يكون بالشر يكون بالخير, فليست إفاضة المال والجاه والسلطان هي دوما من علامات رضي الله, وليس الفقر والمرض وغيرهما من الابتلاءات هي دوما من علامات سخط الله.5 ـ إنه علي كل إنسان أن يكتشف أخطاءه في هذه الحياة الدنيا, وأن يقوم بتصحيحها فور اكتشافها وباب التوبة مفتوح لكل تائب إلي أن يغرغر, ومن هنا كان واجب العقلاء من عباد الله أن يداوموا علي الاستغفار والتوبة والإنابة إلي الله.6 ـ إن تكافل المجتمع الإسلامي هو فريضة من الله يجب علي كل مسلم يقوم بها وأن يساعد علي إحيائها بكل مايستطيع من جهد ومال, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة.7 ـ إن مايخفي علي العباد لا يخفي علي رب العالمين الذي يكافيء المحسن علي إحسانه, ويجازي المسيء بإساءته, وأن الله سريع الحساب.8 ـ إن الحرمان الحقيقي في الدنيا هو في البعد عن أوامر الله, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة, ولايمكن للزارع فيها أن يفلح بغير الهداية الربانية.9 ـ إن الرزق من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وكل ماهو من الله لا يمكن أن يطلب بمعصية, بل لابد أن يطلب بتقديم الطاعات له.من هنا كان في استعراض قصة أصحاب الجنة وجه من أوجه الاعجاز التاريخي في كتاب الله لأنه لم يرد لها ذكر في أي من كتب الأولين, ولو أنها جاءت علي عادة القرآن الكريم من أجل الاستفادة بما جاء فيها من دروس وعبر دون الدخول في تفاصيل الأسماء, والأنساب, والأماكن والأزمنة, والله يقول الحق, وهو يهدي إلي سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:46 am | |
| (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ ..... تم نبيلةعِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-06-05 بسم الله الرحمن الرحيم من أسرار القرآن: (347) - (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف:65 ـ66)
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة الكهف, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وعشر(110), وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة أصحاب الكهف. وهم فتية مؤمنون بربهم في زمن ساد فيه الشرك بالله, وخوفا من أن يفتتنوا في دينهم فروا من جبروت حكامهم المشتركين, ولجأوا إلي غار بجبل قريب من مدينتهم مكثوا فيه نياما لفترة امتدت إلي ثلاثمائة وتسع من السنين القمرية, ثم بعثهم الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعد تلك المدة الطويلة بمعجزة تشهد له ـ سبحانه ـ بطلاقة القدرة علي كل شيء, ومن ذلك البعث بعد الموت.ويدور المحور الرئيسي لسورة الكهف حول قضية العقيدة الإسلامية, ومن ركائزها الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا, فردا صمدا:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) ( الإخلاص:3-4) ومن هناك كانت ضرورة تنزيه الله ـ تعالي ـ عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد, وعن غير ذلك من صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله. من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في وصف القرآن الكريم
لقصة "عبدالله ونبيه موسي مع الخضر" علي عادة القرآن الكريم في استعراضه للقصص فإنه يوصل قارئه مباشرة إلي الدروس المستقاة من القصة دون الدخول في تفاصيل الأسماء والأنساب والأماكن والأزمنة إلا في حدود ما يخدم الهدف من استعراض القصة ويظهر جانبا من جوانب الإعجاز فيها.وتبدأ رواية القرآن الكريم عن هذه الواقعة يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباًّ * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ( الكهف:60- 70)والسبب في هذا الموقف من قصة عبدالله ونبيه موسي ـ عليه السلام ـ يشرحه لنا حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي أخرجه البخاري عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول:" إن موسي قام خطيبا في بني إسرائيل, فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه, فأوحي الله إليه: إن لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك, قال موسي: يارب! كيف لي به قال: تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم, فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون ـ عليه السلام ـ حتي إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما, واضطرب الحوت في الكتل فخرج منه فسقط في البحر, فاتخذ سبيله في البحر سربا, وأمسك الله عن الحوت جرية الماء, فصار عليه مثل الطاق. فلمل استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت, فانطلقا بقية يومهما وليلتهما, حتي إذا كان من الغد قال موسي لفتاه:(فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباًّ) ( الكهف:62).ولم يجد موسي النصب حتي جاوز المكان الذي أمره الله به, قال له فتاه:(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً ) ( الكهف:63).قال: فكان للحوت سربا. ولموسي وفتاه عجبا, فقال:(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) ( الكهف:64).قال فرجعا يقصان أثرهما حتي انتهيا إلي الصخرة, فإذا رجل مسجي بثوب, فسلم عليه موسي, فقال الخضر: وأني بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسي. قال: موسي بني إسرائيل؟ قال نعم, أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا..( قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ( الكهف:67).يا موسي! إني علي علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت, وأنت علي علم من علم الله علمك الله لا أعلمه.فقال موسي:(... سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ( الكهف:69).قال له الخضر: (.. فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ( الكهف:70).فانطلقا يمشيان علي ساحل البحر, فمرت سفينة فكلماهم أن يحملوهما, فعرفوا الخضر, فحملوهما بغير نول, فلما ركبا في السفينة لم يفاجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم, فقال له موسي: قد حملونا بغير نول فعمدت إلي سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئا إمرا."( قال: وقال رسول الله ـ صلي الله عليه وعلي آله: فكانت الأولي من موسي نسيانا, قال: وجاء عصفور, فوقع علي حرف السفنية فنقر في البحر نقرة أو نقرتين, فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر, ثم خرجا من السفنية فبينما هم يمشيان علي الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه, فاقتلعه بيده فقتله, فقال له موسي:(... قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ( الكهف:74-75).قال: وهذا أشد من الأولي(قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ...) ( الكهف:76-77).أي مائلا فقال الخضر بيده( فأقامه) فقال موسي: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (...لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) ( الكهف:77-78).فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ:وددنا أن موسي كان صبر حتي يقص الله علينا من خبرهما ( أخرجه البخاري في صحيحة عن ابن عباس عن أبي بن كعب) وجاء التأويل في تفسير تلك الأحداث الثلاثة بقول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ:(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) ( الكهف:79ـ82).وهذا هو تفسير ما أشكل فهمه علي عبدالله ونبيه موسي بن عمران في مواقفه الثلاثة مع العبد الصالح المسمي بالخضر والذي أعطاه الله ـ تعالي ـ علما لم يتوفر للنبي موسي بن عمران ـ عليه السلام ـ فالسفينة إنما خرقها الخضر ليبعيبها لأنهم كانوا يمرون علي ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة صالحة غصبا فأراد الخضر أن يصيبها بعيب مؤقت لرد ذلك الملك الغاصب عنها, وأما الغلام الذي قتله الخضر فكان سيدعو في كبره إلي الكفر بالله, وأبواه كانا مؤمنين, فأراد الله ـ تعالي ـ أن يبدلهما بغلام أتقي الله منه وأبربهما (ولايقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له). وأما الجدار المتهالك الذي أقامه الخضر كان لغلامين يتمين في المدينة, وكان تحته مال مدفون لهما, حفظه الله ـ تعالي ـ لهما بصلاح أبيهما, وفي ذلك دليل علي أن صلاح الآباء يصل للأبناء ولو بعد عدد من الأجيال, وفي الآية الكريمة دليل علي إمكان إطلاق القرية علي المدينة والعكس.وفي قول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ:(رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82).أي أن هذا الذي فعلته في تلك المواقف الثلاثة إنما هو من رحمة الله ـ تعالي ـ بعباده, وما فعلته عن أمري, لأن الله ـ تعالي ـ أمرني به, ووقفت عليه, وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ـ عليه السلام ـ مع دلالة ما تقدم علي ذلك من قول الحق ـ تبارك وتعالي ـ:(فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً). وإن كان البعض قد ذهب إلي الاعتقاد بأنه كان وليا من الصالحين, والله ـ تعالي ـ أعلي وأعلم. وفي صحيح البخاري, عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس علي فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء والمراد بالفروة هنا الحشيش اليابس, وهو الهشيم من النبات, وقيل المراد بذلك وجه الأرض. وفي التأكيد علي حقيقة الغيب وعلي ضخامة حجم العلم اللدني الذي وهبه الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح المسمي باسم الخضر ما نقله ابن جرير عن أبي بن كعب, عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه, فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلي موسي لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب, لكنه قال: (.. إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً).وهذا الواقعة من سيرة عبدالله ونبيه موسي ابن عمران, جاءت في سورة الكهف فقط من كل القرآن الكريم, وفي الآيات(60 ـ82) من هذه الصورة المباركة. والقرآن الكريم لم يحدد المكان الذي وقعت فيه تلك الواقعة إلا بوصف أنه عند مجمع البحرين, ولم يحدد تاريخ وقوعها هل كان في مصر, أم في شبه جزيرة سيناء, أم في شرق الأردن, وفي كل تلك المناطق مجامع للبحرين منها التقاء فرعي النيل( فرع رشيد وفرع دمياط), وفي شبه جزيرة سيناء هناك التقاء كل من خليج السويس وخليج العقبة, وفي الأردن هناك التقاء نهر الأردن بالبحر الميت, وأغلب الظن أن الواقعة تمت في شبه جزيرة سيناء أثناء التيه حول خليج العقبة وذلك لأن فتي موسي يوشع بن نون لم يرد له ذكر في جميع أحداث موسي مع فرعون مصر, ولكنه قاد بني إسرائيل بعد وفاة كل من هارون وموسي ـ عليهما السلام, ويبدو أن الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا كان في الجزء الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية لأنه لم يكن هناك ملوك في مصر بجوار الفرعون, ولم يكن هناك ملوك كذلك في شبه جزيرة سيناء, ولا في شرق الأردن.كذلك لم يذكر القرآن الكريم اسم العبد الصالح الذي لقيه النبي موسي وطلب منه أن يتبعه لعله أن يعلمه مما علم رشدا, ولولا أن رسولنا ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد سماه لنا كما سمي لنا فتي موسي ـ عليهما السلام ـ ما كان أمامنا من وسيلة إلي معرفة ذلك. ولكن الهدف من استعراض تلك الحلقة من سيرة النبي موسي مع العبد الصالح هو عدد من الدروس الأخلاقية والسلوكية التي يمكن ايجازها فيما يلي:(1) ضرورة التواضع وعدم الاغترار بما يحصل الإنسان من العلم, لأن علم الإنسان ـ مهما اتسعت دوائره فهو علم محدود بحدود قدرات الإنسان الذهنية والحسية, وبحدود مكانه من الكون, وحدود زمانه, ومن ثم فإنه لا يشكل ذرة في علم الله المحيط بكل شيء.(2) من هنا كانت ضرورة التفريق بين المعارف المكتسبة بواسطة حواس الإنسان وقدرات عقله, والعلم الذي يهبه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لعبد من عباده والذي يعرفه باسم العلم الموهوب, وهو جزء من علم الله اللدني يطلع به من يشاء من عباده علي شيء من الغيب بالقدر الذي يشاء, لحكمة يعلمها هو ـ سبحانه ـ ومن هنا فإن تصرفات من يوهبون شيئا من هذا العلم اللدني قد تبدو في ظاهرها متعارضة مع المنطق العقلي نظرا لمحدودية قدرات الإنسان, ومن هنا فإنها لاتفهم إلا بعد إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة عنا.(3) ضرورة الاستفادة عن الأمور الغائبة عنا بشيء من الأدب الذي لاجزم فيه, حتي لو كان ذلك في طلب العم الراشد من أهله.(4) ضرورة الإيمان بالغيب ـ وهو من حقائق الوجود, وضرورة التفريق بين الغيب المرحلي الذي يمكن للإنسان الوصول إليه بشيء من البحث والمجاهدة والغيوب المطلقة التي لا يعلمها الا الله أو يطلع علي قدر منها من يرتضي من أنبيائه وأوليائه الصالحين.(5) ضرورة الرضا بقضاء الله وقدره, لأن الله ـ تعالي ـ لا يقضي لعباده المؤمنين إلا بخير, حتي لو بدا ظاهر القضاء أو القدر في غير مصلحة الإنسان, فإن باطنه بالقطع في مصلحه.(6) ضرورة التسليم بأن الله ـ تعالي ـ قادر علي كل شيء, وأن إرادته نافذة في كل شيء, وأنه لاراد لقضائه, ومن هنا كانت ضرورة رد الأمر في كل شيء إلي الله, فهو ـ تعالي ـ رب هذا الكون ومليكه, ومدبره أمره, وميسر كل شيء فيه.(7) إن من واجبات العبد المؤمن تنفيذ أوامر الله ـ تعالي ـ مهما كلفة ذلك من وقت وجهد.( التسليم بأن الإنسان معرض للنسيان, وبأن من الواجب إكرام الصالحين من عباد الله.(9) اليقين بأن صلاح الوالدين يصل إلي ذراريهما إلي عدد من الأجيال المتتابعة.(10) وهذه الدروس هي وجه من أوجه الاعجاز الاعتقادي والأخلاقي والسلوكي في كتاب الله, كما أن ذكر الواقعة هو وجه من أوجه الاعجاز الإنبائي والتاريخي في هذا الكتاب العزيز. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:47 am | |
| مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ تم تم نبيلوَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ ["الأحزاب" : 40]. بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-03-13 هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة "الأحزاب" وهى سورة مدنية ، وآياتها ثلاثة وسبعون "73" بعد البسملة ، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى "غزوة" الأحزاب "في الآيات من" 9 -- 27 "منها ، والمقصود ب "الأحزاب" هم كفار قريش الذين جاءوا من الجنوب ، ثم انضم إليهم من تجمع معهم من القبائل الذين جاءوا من الشمال ، من أمثال قبيلتي "غطفان" و "أشجع" ، وقد تكتلوا لمحاربة المسلمين ، وخططوا لحصار المدينة المنورة ، وقد حدث ذلك في السنة الرابعة للهجرة فقام رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بحفر الخندق حول المدينة دفاعا عنها ضد الحصار الذي دام حوالي الشهر ، ثم أرسل الله -- تعالى -- على أحزاب الكفار ريحا عاصفة وجنودا من الملائكة ، فاضطروا إلى فك الحصار ، وإلى الفرار طالبين النجاة ، وانصرفوا راجعين بخيبة الأمل من حيث أتوا. ويدور المحور الرئيس لسورة "الأحزاب" حول الوصف التفصيلي للغزوة التي سميت باسمهم ، كما فصلت عددا من التشريعات والتوجيهات والآداب الإسلامية ، وتحدثت عن الآخرة وأهوالها ، ونصحت العباد بضرورة الالتزام بتقوى الله ، وختمت بالحديث عن الأمانة التي حملها الإنسان ، ولم يطق حملها أي من السماوات والأرض والجبال. هذا ، وقد سبق لنا استعراض سورة "الأحزاب" وما جاء فيها من التشريعات والعبادات والأخلاق وركائز العقيدة ، ونخص هذا المقال بأوجه الإعجاز الإنبائي التاريخي والتربوي في إشارات القرآن الكريم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -- صلى الله عليه وسلم -- في هذه الآية الكريمة وفي غيرها من آيات هذا الكتاب المجيد. وقد جاءت الإشارة إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي -- صلى الله عليه وسلم -- في القرآن الكريم في مائتين وثمانية عشر (218) موضعا ، منها أربع "4" مرات باسم محمد ، ومرة واحدة "1" باسم أحمد ، وفي ثمان وثلاثين "38" مرة بصفة النبوة ، وفي مائةوخمسة وسبعين "175" مرة بصفته الرسولية ، وسميت باسمه الكريم إحدى سور القرآن المجيد "سورة محمد" ، هذا بالإضافة إلى العديد من صيغ النداء عليه ، وذلك لأن الخطاب القرآني في غالبيته موجه إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين -.ميلاده -- صلى الله عليه وسلم -- : في دار النابغة بمكة المكرمة في وقت السحر ، من ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة (53) قبل الهجرة في عام الفيل ، الموافق (20/4/570 م) ، ولد المصطفي -- صلى الله عليه وسلم -- وعلى ذلك فهو الوحيد من أنبياء الله الذي يعرف كل من تاريخ ومكان ميلاده ، وتاريخ ومكان وفاته ، وأين دفن وتفاصيل سيرته العطرة بدقة نادرة. وقد ولد -- صلى الله عليه وسلم -- يتيما ؛ لأن والده كان قد توفي وتركه جنينا في بطن أمه ابن شهرين ، وفي عام ميلاده الشريف هزم جيش "أبرهة الأشرم" الحاكم الحبشي لليمن ، الذي زحف بجيشه يتقدمه الفيل إلى مكة يقصد هدم الكعبة ، فأذله الله -- تعالى -- ودمر جيشه بمعجزة خارقة. وفي تلك الليلة وانطفأت النيران المعبودة في معابد الفرس ، وجفت بحيرة "ساوة" ، بعد أن غارت مياهها ، (وكان الفرس الوثنيون يعتبرونها بحيرة مقدسة) وزلزل إيوان كسرى ، وسقطت أربعة عشر شرفة من شرفه.نشأته -- صلى الله عليه وسلم -- : تم إرضاع الوليد المبارك في ديار بني سعد ، أرضعته السيدة حليمة السعدية ، التي شهدت ما حل بديارها من بركات هذا الرضيع الذي فطم بعد سنتين ، وأرادت أمه أن تسترجعه ولكن حليمة استعطفتها أن تبقي وحيدها في مضارب بني سعد ، حتى يشب صحيحا في جو البادية ، فبقي هنالك إلى سن الخامسة حين استرجعته أمه ، فعاد إلى مكة ، ورأت أمه أن تصحبه لزيارة قبر أبيه (عبد الله بن عبد المطلب) الذي لم يره بيثرب وفاء لذكره. وبعد وصولهما إلى المدينة عاش كلاهما عند أخوال أبيه (بنو النجار) قرابة الشهر ، وفي طريق العودة إلى مكة توفيت أمه ودفنت في منطقة تعرف باسم (الأبواء) ، وتركت هذا الصبي الصغير في صحبة خادمة لها ، يعاني اليتم المركب بوفاة أبيه وهو لا يزال في بطن أمه ، ثم بوفاة أمه وهو في حدود السادسة من العمر. وفي مكة احتضنه جده عبد المطلب ، الذي بالغ في إكرامه لمدة عامين ، ثم ما لبث أن مات ومحمد في حدود الثامنة من العمر فاحتضنه عمه أبو طالب. وعاش هذا الطفل في مكة صامتا ، متأملا ، مفكرا ، لا يعرف لهو الطفولة ، يرعى الغنم لأهلمكة على قراريط حتى بلغ الثانية عشرة من عمره ، واشتهر في مجتمعه بالصادق الأمين. وفي أوائل العشرينيات من عمره خرج في تجارة للسيدة خديجة بنت خويلد ، إلى بلاد الشام ، وعاد من تلك الرحلة بربح وفير ، فأعجبت السيدة خديجة بأمانته ، وعرضت عليه الزواج فقبل ، لأن زوجها كان قد مات عنها ، وكانت سيدة ذات شرف ومال ، فطمع فيها الطامعون لنبلها وشرفها ، وكانت تبحث عن زوج يحميها ويحفظ ثروتها من طمع الطامعين. كانت هي في حدود الأربعين من عمرها وهو في حدود الخامسة والعشرين ، وبعد إتمام الزواج عاش الزوجان الكريمان معا لقرابة الربع قرن ، رزقهما الله -- تعالى -- خلاله بولدين وأربع بنات ، هم : القاسم ، زينب ، رقية ، أم كلثوم ، فاطمة ، وعبد الله ، وقد توفي الولدان وبقيت البنات الأربع.بعثته الشريفة : -- في سن الأربعين جاء الوحي إلى محمد بن عبد الله ، وهو يتحنث في غار حراء ، وكان ذلك في رمضان سنة (13 ق. ه / الموافق : 610 م) ، وعاد خائفا مرتعدا إلى بيته ، فأوسدته زوجته السيدة خديجة في سريره ودثرته بأغطية ثقيلة ، وسألته الأمر ، فلما قص عليها ما حدث معه قالت : "... أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا... إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر". وانطلقت به السيدة خديجة إلى ابن عم لها يعرف باسم "ورقة بن نوفل" ، وكان من الأحناف ، فبعد أن استمع إليه قال : "هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذع ، يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك". فقال -- صلى الله عليه وسلم -- : "أومخرجي هم؟" قال ورقة : نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ". ويسجل القرآن الكريم البشرى بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين -- صلى الله عليه وسلم -- على لسان عيسى ابن مريم -- عليهما السلام -- وذلك بقول ربنا -- تبارك وتعالى --(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ([الصف : 6]. كما يسجل البشرى بمولده يتيما في عام الفيل ، ورعاية الله -- تعالى -- له فيقول ربنا -- تبارك اسمه -- : (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى ([الضحى : 6 -- 8]. ويقول -- عز من قائل -- :(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول ([الفيل : 1 : 5]. ويقول عنه ربنا -- تبارك وتعالى -- : (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ([الأحزاب : 40]. وهذه الآيات الكريمة تمثل وجها من أوجه الإعجاز الإنبائى والتاريخي في كتاب الله ، كما تمثل السيرة العطرة لهذا النبي الخاتم وجها من أوجه الإعجاز التربوي في هذا الكتاب العزيز.هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة "الأحزاب"، وهي سورة مدنية، وآياتها ثلاثة وسبعون (73) بعد البسملة،هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة "الأحزاب"، وما جاء فيها من التشريعات، والعبادات، والأخلاق، وركائز العقيدة، ونخص هذا المقال بأوجه الإعجاز التاريخي والإنبائى والتربوي في إشارات القرآن الكريم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية الكريمة وفي غيرها من آيات هذا الكتاب المجيد التي ذكرت خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم- أو أشارت إلى شخصه الكريم، وفي مقال سابق استعرضنا ميلاده الشريف ونشأته المباركه، ونستكمل هنا بقية سيرته الشريفة، وما فيها من الدروس والعبر.البدء بدعوته الشريفة: بدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الإسلام سرًّا، واستمرت الدعوة ثلاث سنوات، وكان أول من آمن به من النساء أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد – رضي الله تعالى عنها-، ومن الرجال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه-، ومن الصبيان على بن أبي طالب – كرم الله وجهه- وجاء من بعد هؤلاء كل من عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وورقة بن نوفل، وأبو ذر الغفاري، والزبير بن العوام، وعمر بن عيينة، وسعد بن العاص، وغيرهم ممن رباهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على التوحيد الخالص لله –تعالى. وراح الإسلام ينتشر في مكة سرًّا، وكفار قريش لا يعبأون به، ظنًّا منهم أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم- قد تأثر ببعض الأحناف في مجتمعه، ثم جاءه جبريل – عليه السلام- بالأمر الإلهي بالجهر بالدعوة قائلاً له: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ (الشعراء: 214-220). وفي ذلك أيضا يقول ربنا الكريم موجها الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ (الأنعام:51). ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ﴾ (المائدة:67). ويقول: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ﴾ (الحجر:94). وهنا دخلت الدعوة في مرحلتها العلنية، وبدأ الصدام بين الإيمان والكفر، وبين التوحيد والشرك لتبلغ المعركة ذروتها على مدى عشر سنوات كاملة.هجرة المسلمين إلى الحبشة:- لما اشتد إيذاء الكفار والمشركين لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- ولمن آمن برسالته أمر بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثته الشريفة، فهاجر إليها ستة عشر مسلمًا من الرجال والنساء، ثم تبعتهم هجرة ثانية إلى الحبشة، ضمت ثلاثة وثمانين رجلاً وتسعة عشر امرأة من المسلمين والمسلمات. وعندما علم كفار ومشركو قريش بهجرة المسلمين إلى الحبشة حاولوا الدس لهم عند "النجاشي" ملك الحبشة وطالبوه، بردهم بدعوى خروجهم على دين آبائهم، وعدم دخلوهم في دين "النجاشي". واستعانوا على ذلك بمحاولة رشوة "النجاشي" بالهدايا، ولكنه كان رجلاً عقلاً فأرسل إلى المهاجرين يسألهم عن دينهم وعن ما يقول هذا الدين في عيسى بن مريم فقالوا: إنه عبد الله ورسوله، وروح من الله - تعالى- وكلمة منه ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً صغيرا من الأرض وقال: " ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه".إسلام نفر من أشراف قريش:- ثم أعز الله دينه، وأيد رسوله بإسلام كل من عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، وهما من أشراف قريش، فبدأ الكفار والمشركون باستشعار خطر الدين الجديد على سلطانهم، فعقدوا معاهده بينهم لحصار المسلمين ومقاطعتهم، وعلقوها في جوف الكعبة تعظيما لشأنها. وكانت نصوص المعاهدة تقضي بالمقاطعة الكاملة للمسلمين بيعا وشراءً وزواجاً وتزويجا، واضطر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى اللجوء مع من آمن معه إلى شعب بنى هاشم. وانحاز إليهم في شعب بنى هاشم بنو عبد المطلب (مؤمنهم وكافرهم باستثناء أبى جهل) واستمر تضييق الحصار على المسلمين ثلاث سنوات كاملة، حتى أكلوا أوراق الأشجار، والوحي يتنزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بالصبر والاحتساب، وظل الحال كذلك حتى ثار أحد الغيورين من زعماء قريش على هذا الحصار، فأبطلت قريش معاهدة الظلم تلك، وفك الحاصر عن المسلمين.الذهاب إلى الطائف:- في العام العاشر من بعثته الشريفة فقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كلا من زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها- وعمه أبو طالب. وقد أطمع ذلك كفار ومشركي قريش في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وفي من آمن معه من المسلمين، فاشتدت وطأتهم على عباد الله الصالحين إلى الحد الذي اضطر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج من مكة قاصدا الطائف، يلتمس النصر من قبيلة ثقيف، ولكنهم أساءوا استقباله طوال عشرة أيام قضاها بينهم، وحينما قرر العودة إلى مكة سلطوا غلمانهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفين. فوقف يستجمع قواه عند بستان لابني ربيعة، وتوجه إلى الله - تعالى- بدعاء يهز العقل والقلب معاً يقول فيه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله". وقعت معه أحداث لا يتسع المقام لسردها. ثم توجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قاصداً مكة فيدخلها في حماية أحد المشركين هو المطعم بن عدى.
وتأتي الآية الكريمة التي اتخذنها عنوانا لهذا المقال مؤكد صدق نبوته، وأنه – صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، فليس من بعده نبي ولا رسول، والتاريخ المدون يسجل ذلك، فقد ثبت كذب كل من ادعى النبوة بعد سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- وهنا تتجلى ومضة الإعجاز الإنبائى والتاريخي في قول ربنا -تبارك وتعالى-:﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ (الأحزاب:40). كما تتضح أوجه الإعجاز التربوي في السيرة الشريفة لهذا الرسول الخاتم – صلى الله عليه وسلم- ولصحبه الكرام وهي السيرة التي يجب أن يتأسى بها كل مسلم ومسلمة. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأحد سبتمبر 25, 2011 2:47 am | |
| وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ﴾. [ الحديد : 27 ] بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2010-02-27 في هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم سورة الحديد وهي سورة مدنية, وآياتها تسع وعشرون (29) بعد البسملة. وقد سميت بهذا الاسم لحديثها عن إنزال الحديد إلى الأرض من السماء, وهي حقيقة لم تتوصل إليها المعارف المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, كما تتحدث السورة الكريمة عما في الحديد من بأس شديد, وماله من منافع للناس وهو ما أثبتته المعارف المكتسبة كذلك مؤخرا. وسورة الحديد هي السورة الوحيدة من بين سور القرآن الكريم التي تحمل اسم عنصر من العناصر المعروفة لنا, والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر. ويدور المحور الرئيسي لسورة الحديد حول قضية التشريع الإسلامي ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية ـ وإن لم تغفل قضية العقيدة الإسلامية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الحديد, وما جاء فيها من تشريعات, وركائز العقيدة الإسلامية, وعدد من الإشارات العلمية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في وصف القرآن الكريم لعدد من المواقف الرئيسية في سيرة عبد الله ونبيه المسيح عيسى ابن مريم ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وذلك في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال وفي غيره من آيات القرآن المجيد. من أوجه الإعجاز في استعراض القرآن الكريم لعدد من المحطات الرئيسية في سيرة المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ: جاء ذكر المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ في كتاب الله خمسا وثلاثين مرة (35) منها ما جاء باسم المسيح (3 مرات), وما جاء باسم عيسى (9 مرات), وما جاء باسم ابن مريم (مرتان) وباسم عيسى ابن مريم (13 مرة) وباسم المسيح ابن مريم (5 مرات) وباسم المسيح عيسى ابن مريم (3 مرات),. وهذه الآيات القرآنية الكريمة تشير إلى الحقيقة التاريخية والدينية لرسول من أولي العزم من الرسل هو المسيح عيسى ابن مريم (عليه وعلى أمه السلام), وتشير الآيات إلى أن السيدة مريم ابنة عمران رزق بها والدها على الكبر إثر دعاء عريض, فكانت ابنة لأبوين صالحين, وكان أبوها من بيت النبوة حيث ينتمي نسبه إلى سليمان بن داود - عليهما السلام- وبلغ بالأبوين الصالحين الكبر دون أن يرزقا بذرية فتوجهت زوجة عمران إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء أن يرزقها ولدا تهبه لخدمة المسجد الأقصى, والقيام على سدانته, ومع إلحاحها في الدعاء, وإخلاصها وخشوعها استجاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ دعاءها فحملت, وقبل أن تضع حملها فارق زوجها العبد الصالح عمران دنيا الناس وترك زوجته الحامل أرملة. ولما جاء وقت الوضع, فوجئت أرملة عمران بأن وليدها أنثي, فسمتها مريم وعرفت باسم مريم ابنة عمران وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [ آل عمران:33 ـ36]. وتنازع الصالحون المعاصرون فيما بينهم من يكفل مريم, ولكن الله ـ تعالى ـ كفلها زوج خالتها, الذي كان نبي ذلك الزمان في قومه, وهو العبد الصالح والنبي الصالح زكريا الذي رعاها حتى كبرت, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ آل عمران :37 ]. وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ آل عمران:42 ـ46 ]. اجتهدت مريم في العبادة والتنسك والزهد في الدنيا, والتبتل في الطاعة حتى فوجئت في يوم من الأيام بالملائكة تبشرها بأن الله (تعالى) سوف يهب لها ولدا زكيا, وأن هذا الولد سيكون نبيا كريما مؤيدا بالمعجزات, فتعجبت من قضاء الله, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران:45 ـ47 ]. وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياًّ * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِياًّ * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِياًّ * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِياًّ * فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِياًّ * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِياًّ * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنسِياًّ * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِياًّ * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِياًّ * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ * وَبَراًّ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياًّ * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ ﴾ [ مريم: 16: 33 ]. وعند بلوغ عيسى ابن مريم سن الثلاثين جاءه وحي السماء بالنبوة والرسالة, وأنزل عليه الإنجيل وأمره الله ـ تعالى ـ بدعوة بني إسرائيل إلى دين الله الحق (الإسلام) بعد أن كانوا قد انحرفوا عنه, وأشركوا بالله, وعبدوا الأصنام والأوثان, وطففوا المكيال والميزان, وأقبلوا على ماديات الحياة بشراهة منقطعة النظير, وعبدوا المال والجاه والسلطان من دون الله, وحرفوا التوراة, وزوروا تعاليم الله, وأفسدوا في الأرض إفسادا كبيرا, وأشاعوا فيها مختلف صور النفاق, والرياء, والكذب, والطمع, والشره. فتفشت بينهم المظالم والمفاسد والتجاوزات التي انحطت بهم إلى مادون مستوي الحيوانات. مضى نبي الله ورسوله عيسى ابن مريم في دعوته لليهود من أجل أن يعودوا إلى دين الله (الإسلام) الذي علمهم إياه رسولهم موسي (عليه السلام) ولكن لم يؤمن معه إلا أقل القليل من الحواريين ومن فقراء اليهود وضعفائهم, ولذلك بدأ كفار اليهود في شن حملاتهم عليه فاتهموا أمه بالزنا (شرفها الله) واتهموه هو بالسحر والهرطقة والكذب والاتصال بالشياطين, وهو الرسول الموصول بالوحي والمؤيد بجبريل (عليه السلام). ثم أخذ اليهود في الكيد لنبي الله عيسى ابن مريم ـ عليهما السلام ـ عند الرومان الذين كانوا يحتلون أرض فلسطين آنذاك, وأقنعوا الوالي الروماني أن نبي الله عيسى يكتل الناس حوله للقيام بعصيان مدني أو ثورة شعبية ضد الرومان المحتلين فحاولوا القبض عليه وصلبه حيا, ولكن الله ـ تعالى ـ رفعه إليه ونجاه من كيدهم. من هذا الاستعراض للإشارات القرآنية التي جاءت بشيء من ذكر عبد الله ورسوله المسيح عيسى ابن مريم ـ عليهما السلام ـ تتضح أوجه من الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:19 pm | |
| ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ ﴾ {مريم:12} هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون (98) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول التي أوردت السورة الكريمة معجزة حملها بابنها عيسي دون أن يمسها بشر( من أم بلا أب) ووضعها إياه طفلا يتكلم وهو في المهد. ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة مريم وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات العلمية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وفي غيرها من الآيات القرآنية الكريمة التي أشارت إلي نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, وقد عاشا قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة. من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في ذكر القرآن الكريم لنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام: جاء ذكر نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام في خمس من آيات القرآن الكريم يمكن تصنيفها على النحو التالي: 1 ـ منها ما جاء يبشر بميلاده, وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصلى فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ( آل عمران:38 ـ39). ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ ﴾ ( مريم:7). ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ ( الأنبياء:89 ـ90). 2 ـ ومنها ما وضعه ضمن كوكبة الأنبياء المعروفين لنا, وفي ذلك يقول رب العالمين: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (الأنعام:83 ـ87). 3 ـ ومنها ما يؤكد منزلة نبي الله يحيى الذي فقهه الله في الدين, وعلمه التأويل, وفهمه أحكام رب العالمين, وهو لا يزال في طور الصبا, وأمره بأن يعمل بما جاء في التوراة بجد وعزم, وطبعه على التواضع والزهد وسمو النفس, وعلى تقوي الله تعالى في السر والعلن, وعلى الاجتهاد في العبادة من أجل تزكية النفس, وعلى الرفق بالمخلوقين والعطف عليهم, والحنان لهم, كما جعله الله تعالى كثير البر بوالديه, وكثير الإحسان إليهما, ولم يجعله متجبرا على الخلق, ولا عاصيا للخالق في شيء, لذلك جعل الله تعالى له سلاما وأمنا وحفظا من الأذى لحظة ولادته, ويوم وفاته, ويوم بعثه حيا, وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِياًّ * وَبَراًّ بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياًّ * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وَلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياًّ ﴾ ( مريم:13 ـ15). ويقول المصطفي صلى الله عليه وسلم عن العبد الصالح,والفتي العابد يحيى بن زكريا عليهما السلام ما يرويه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بالنص التالي: ما من أحد يلقي الله عز وجل إلا وقد هم بخطيئة أو عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعمل.وقال صلى الله عليه وسلم: من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ابن آدم يلقي الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه, إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين, ثم أومأ النبي إلي قذاة من الأرض فأخذها وقال: وكان ذكره مثل هذه القذاة. وتعددت الروايات عن استشهاد يحيى بن زكريا, لكن الثابت أنه قتل دفاعا عن دين الله الحق, وما يدعو إليه من التزام بمكارم الأخلاق. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل الأنبياء, قال قائل: موسي كليم الله, وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته, وقال قائل: إبراهيم خليل الله, ومضيى الصحابة يتحدثون عن الأنبياء, فتدخل الرسول عليه الصلاة والسلام حين رآهم لا يذكرون يحيى قائلا: أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر, ويأكل الشجر مخافة الذنب, أين يحيى بن زكريا؟. الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله يحيى بن زكريا. من الدروس المستفادة من الإشارات القرآنية الكريمة إلي بعض الأحداث في سيرة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام ما يلي: 1 ـ إن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, ومن هنا كان التقرب إلي الله بالدعاء هو مفتاح كل خير. 2 ـ إن الاستقامة على أوامر الله هي طوق النجاة للعبد في الدنيا والآخرة. 3 ـ إن الهدف من عبادة الله سبحانه وتعالى هو تربية النفس الإنسانية وإشعارها بمراقبة الله, وتأكيد حقيقة عبودية العبد لله الخالق البارئ المصور, وحقيقة ألوهية الله وربوبيته ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه في قلب وعقل الإنسان العابد, وهذا من أعظم وسائل التربية للإنسان, ومن أيسر العوامل الفاعلة في ضبط سلوكه وسط معركة صراعه مع الشيطان, والتضارب بين أهل الحق وأهل الباطل على طول الزمان. 4 ـ إن تقوي الله وحسن الخلق والعمل الدءوب على تزكية النفس, وحب الخلق, والحنان لهم, والعطف عليهم هي من أعظم القربات إلي الله, ومن مفاتيح القلوب عند المخلوقين. 5 ـ إن الثبات على الحق والتمسك به والاستعداد للتضحية من أجله هو من منازل الشهادة في سبيل الله, فقد أهدر دم نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام بسبب كلمة حق قالها في بلاط ملك فاجر, فاسق, ظالم يقال إن اسمه هيرود, وبقي ذلك الموقف النبيل من نبي الله يحيى بن زكريا مثلا يحتذي لأهل العلم والدين والالتزام إلي آخر الزمان. وهذه الإشارات القرآنية الكونية إلي نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, والدروس المستفادة منها, تمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في كتاب الله. ووجه الإعجاز التاريخي يتجسد في صدق الإشارات القرآنية والنبوية عن هذا النبي الصالح, فعلى الرغم من التشابه بين ما جاء في القرآن الكريم وما أوردته بعض كتب الأولين عن نبي الله يحيى بن زكريا أو يوحنا المعمدان, فإن الفرق بين كلام الله وروايات البشر هو أوضح من الشمس في رابعة النهار. وأما الإعجاز التربوي فيتمثل في النقاط الخمس التي أوجزتها آنفا تحت عنوان الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام, وأما الإعجاز العلمي فيتجسد في إنجاب طفل من أبوين طاعنين في السن مصابين بالعقم, يائسين من إمكان النسل مما فتح الباب أمام الأطباء بإمكان علاج تلك الحالات, وإن كانت المعجزات خوارق للسنن لا يقوي عليها إلا رب العالمين. وواضح الأمر أن ذكر القرآن الكريم لنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام يشهد بأن هذا الكتاب العزيز لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو بيان الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية, في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) وحفظه على مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا على الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة. فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام صلى الله عليه وسلم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:20 pm | |
| ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة الأنبياء وهي سورة مكية, وآياتها اثنتا عشرة ومائة(112) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها سير عدد من أنبياء الله ورسله. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأنبياء, وما جاء فيها من أسس العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التاريخي, والتربوي, والعلمي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وفي غيرها من الآيات القرآنية التي أوردت ذكر نبي الله زكريا (عليه السلام) الذي بعث قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة.من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في ذكر القرآن الكريم نبي الله زكريا: جاء ذكر نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم سبع (7) مرات, وتشير الآثار إلي أن نبي الله زكريا(Zechariah=Zacharias) كان قد بعث في الفترة التي سبقت ميلاد المسيح عيسي ابن مريم (عليهما السلام), وكلاهما ينتهي نسبه إلى سليمان بن داود (عليهما السلام), وكانت بعثة زكريا (عليه السلام) في زمن قد ضاع فيه الدين, وكثرت المعاصي, واستحلت المحرمات, وفشت المنكرات, وسادت المظالم, وفسدت المجتمعات فسادا عظيما, فبعث الله (تعالي) زكريا نبيا إلى قومه يردهم إلى الدين الصحيح, ويدعوهم إلى عبادة الله وحده, وإلي الالتزام بأوامره, واجتناب نواهيه. وكان زكريا (عليه السلام) نجارا, كما أخرج كل من الإمامين أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ولما بلغ زكريا سن الزواج تزوج من شقيقة زوجة عمران, الذي كان واحدا من علماء زمانه. وعندما بعث زكريا بدأ في دعوة قومه إلي دين الله (الإسلام), فلم يستجب له منهم إلا أقل القليل, وظل الحال كذلك حتى بلغ من الكبر عتيا. وكان كل من النبي زكريا (عليه السلام) وعديله العالم الجليل عمران بلا ولد, فتمنى كل منهما ومن زوجتيهما على الله (تعالى) الذرية الصالحة, وألحوا على الله الوهاب بذلك حتى استجاب لدعاء كل منهم. وكان أكثر الأختين إلحاحا على الله بالدعاء طلبا للذرية هي زوجة عمران فحملت أولا, ونذرت ما في بطنها محررا لله (تعالى) أي تهبه خادما للمسجد الأقصى, يعمره ويقوم على إصلاحه, ويتفرغ للعبادة فيه, ولكن لما جاءت ساعة الوضع فوجئت بأن المولود أنثي, وعلى الرغم من إقرارها بأن الأنثى ليست كالذكر, إلا أنها قررت أن تفي بنذرها لله, ودعت الله (تعالى) أن يحفظ هذه الفتاة التي سمتها مريم, ويحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم, واستجاب الله (سبحانه وتعالي) لدعائها فتقبل منها تلك المولودة بقبول حسن, وشاءت إرادته أن يطهرها وأن يصطفيها على نساء العالمين, وأن يجعل منها أما لنبي يجيء ميلاده بمعجزة لا تقل عن معجزة خلق آدم من تراب, (بلا أب ولا أم) فيجيء ميلاد عيسي ابن مريم (عليهما السلام) دون أن يمسسها بشر (أي من أم بلا أب) وهي البتول, الطاهرة, العابدة, العفيفة. وكان العالم الرباني عمران قد توفاه الله (تعالى) قبل ولادة ابنته مريم, واختلف شيوخ القوم وعلماؤهم على من يكفل مريم, واقترعوا على ذلك مرارا حتى فاز بهذا الشرف زوج خالتها نبي الله زكريا (عليه السلام) وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾ (آل عمران:35 ـ41). وخشي زكريا (عليه السلام) على قومه من ضياع الدين, وخراب الذمم, وتحلل المجتمع من جميع القيم, ولم يكن له ولد يخلفه فيهم, فدعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا يحسن القيام بواجب وراثة خط النبوة, ويحسن القيام عليه, ويتابع دعوة أبيه من بعده, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ كـهيعص * ذِكْرُ رَحْمةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً سَداًّ * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياًّ * وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياًّ ﴾ [ مريم:1 ـ6]. فاستجاب الله (تعالى) دعاء عبده زكريا, وبشره بغلام اسمه (يحيي) لم يتسم باسمه أحد من قبل, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِياًّ * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ على هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِياًّ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياًّ ﴾ [ مريم:7 ـ11]. ويؤكد ربنا (تبارك وتعالي) في محكم كتابه وقوع تلك المعجزة فيقول: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [ الأنبياء:89 ـ90] ويمتدح ربنا (تبارك وتعالى) سلسلة الأنبياء التي جاء منها كل من عبده زكريا وولده يحيي (عليهما السلام) فيقول: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الأنعام:83 ـ87]. ومن الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم شيئا من سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) ما يلي: 1 ـ أن الدعاء هو العبادة, وهو مقام العبودية الحقة لله (تعالى) وذلك لأن العبد كلما مرت به ضائقة ولجأ إلي ربه في ضراعة وخشوع جسد حقيقة العبودية لله, ومن هنا كان أهلا لاستجابة الله (سبحانه وتعالى) لدعائه كما حدث في استجابة الله (جلت قدرته) لدعاء كل من عمران وزوجه, وزكريا وزوجه (عليهم من الله السلام). 2 ـ أن وراثة الدين ليست مجرد وراثة العرق والدم, إنما هي وراثة الالتزام بمنهج الله, والثبات عليه عن قناعة قلبية وعقلية كاملة, وهي قناعة لابد أن يصدقها العمل الصالح, وهداية الله البشر تتمثل فيما جاء به أنبياؤه ورسله, وكل من يلتزم بهدي الله يهتدي, وكل من يحيد عنه يضل ويزيغ, فما أرسل الله (تعالى) أنبياءه ورسله إلا ليطاعوا, وما أنزل رسالته إلا لتحكم بين الناس بالقسط, وحتى ذرية الأنبياء إن لم يلتزموا بهدي الله فلن ينفعهم نسب العرق والدم شيئا. 3 ـ لابد من التسليم بأن الله (تعالى) هو الذي جعل العاقر لا تلد, وجعل الشيخ الفاني لا ينسل, وهو (سبحانه وتعالى) في الوقت نفسه قادر على إصلاح العاقر, وعلى إزالة أسباب عقمها فيجعلها تلد, وقادر على إصلاح الشيخ الفاني الذي انقطع نسله فيجعله ينسل, وهو (سبحانه) على كل شيء قدير. 4 ـ الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود, ولا يقف أمامها عائق, واليقين بأن الله (تعالى) على كل شيء قدير, وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. 5 ـ اليقين بأن الوفاء بالنذر هو حق لله (تعالى) لا يجوز النكوص فيه ولا التراجع عنه. 6 ـ التأكيد على وحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الله (تعالى) والمؤكدة على الأخوة بين جميع أنبياء الله ورسله, وعلى الأخوة بين جميع بني آدم. 7 ـ أن الدنيا دار ابتلاء واختبار, وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد ابتلي زكريا بعدم الذرية حتى بلغ من العمر مبلغا كبيرا, ثم بعد أن رزقه الله (سبحانه) الذرية, ابتلي بقتل ابنه الوحيد يحيي في حياته, ثم مات زكريا نفسه مقتولا, دون ذنب ارتكبه. من هذا الاستعراض للآية القرآنية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وللإشارات القرآنية الكريمة لعدد من المواقف في حياة نبي الله زكريا (عليه السلام) يتضح لنا ملمح من ملامح الإعجاز التاريخي, لأن هذا النبي الصالح عاش قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ستمائة سنة, وأن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة تدوين, ولأن صحف الأولين لا تحوي إلا الأساطير المشوهة لشخص هذا النبي الصالح, والشهيد المبتلي, والمجاهد الصابر في سبيل تبليغ دين الله وهدايته لقومه, والذي قتل ابنه الوحيد ظلما في حياته, ثم لحقه هو مقتولا ظلما كذلك. وتتضح ملامح الإعجاز التربوي في الدروس المستفادة من سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) من القيم النبيلة المصاحبة لتلك السيرة العطرة, وتتضح ملامح الإعجاز العلمي في الإشارة إلي إمكان إصلاح العقم, وعلاج انقطاع النسل في زمن الشيخوخة وكبر السن, وهي من القضايا التي لم تدركها المعارف المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وهذا مما يوضح عددا من أوجه الإعجاز في الإشارات القرآنية الكريمة إلي سيرة نبي الله زكريا (عليه السلام) التي تقطع بربانية القرآن الكريم, وبصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام (صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين).. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:21 pm | |
| ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ﴾(النمل: 16)هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في نهاية الخمس عشرة الأول من سورة النمل, وهي سورة مكية, وآياتها ثلاث وتسعون(93) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي وادي النمل الذي مر به نبي الله سليمان وجنوده, ونطقت نملة بلغتها الخاصة آمرة بقية أفراد مستعمرتها من النمل بالدخول إلي مساكنهم محذرة إياهم من إمكان أن تطأهم أقدام سليمان وجنوده أو حوافر خيلهم فيحطموهم وهم لا يشعرون. ويدور المحور الرئيسي لسورة النمل حول قضية العقيدة الإسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية, وإن تميزت سورة النمل كما تميزت السورة: السابقة عليها ( سورة الشعراء), واللاحقة بها ( سورة القصص) باستعراض قصص عدد من الأمم الهالكة, وذلك من أجل استخلاص الدروس والعبر المستفادة منها, ومقارنة مواقف أبناء تلك الأمم البائدة بمواقف أمثالهم من الكفار والمشركين في مواجهة الرسالة الخاتمة في زمن الوحي إلى زماننا الراهن وحتى تقوم الساعة. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة النمل وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والتشريعات الإسلامية, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضتي الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في عرض لمحات من سيرة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وفي غيرها من آيات الكتاب المجيد.من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في الآية الكريمة:-في الأثر أن نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ عاش في أوائل الألفية الأخيرة قبل الميلاد, وأنه حكم جزءا من أرض فلسطين في حدود السنوات (970 ـ933 ق.م) والقرآن الكريم نزل في الفترة من (610 م) إلى (633 م), وعلي ذلك فإن الفارق الزمني بين موت نبي الله سليمان وتنزل القرآن المجيد يزيد علي ألف وخمسمائة سنة, ومن هنا فإن استعراض القرآن الكريم لعدد من المواقف من سيرة هذا النبي الكريم لأجل استخلاص الدروس والعبر منها يأتي وجها من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي في كتاب الله, كما نجد سبقا علميا في الإشارة إلى أن نبي الله سليمان, وأباه النبي داود ـ عليهما السلام ـ كانا قد علما منطق الطير, وذلك لأن معرفة الإنسان بلغة الطيور هو كشف علمي مستحدث في مجال علم سلوك الحيوان لم يكن يعلم به أحد من أصحاب العلوم المكتسبة قبل مطلع القرن الميلادي العشرين, وإشارة القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة إلى أن للطيور لغة يعتبر وجها من أوجه الإعجاز العلمي في كتاب الله. وهذه الصور الثلاث من الإعجاز التاريخي والتربوي والعلمي في استعراض القرآن الكريم لعدد من المواقف التي عاشها نبي الله سليمان تتضح بجلاء إذا ما قورنت بما جاء عن هذا النبي الصالح من أخبار في كتب الأولين التي نزعت عنه النبوة كما نزعتها عن أبيه, واعتبرتهما مجرد حاكمين ملكيين علي جزء من أرض فلسطين, وأحاطتهما بكم هائل من الخرافات والأساطير والسلوكيات المعيبة التي شوهت صورتهما وأساءت إلى شخصيتهما إساءات بالغة. في المقابل نري كلا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يذكر نبي الله سليمان, كما يذكر أباه بما يليق بمقام النبوة والرسالة الذي كرم الله ـ تعالي ـ كلا منهما به, ورفعه إليه فقد جاء ذكر نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في سبعة عشر موضعا من كتاب الله يشرح كل منها موقفا من المواقف المهمة في سيرة هذا النبي الكريم, ومن ذلك ما يلي:1ـ ما يؤكد أن كلا من داود وسليمان من أنبياء الله, وأنهما من نسل إبراهيم الذي هو من نسل نوح ( عليهما السلام), وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي:ـ ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [ النساء:163]. 2 ـ ومنها ما يمدح عبد الله سليمان بكثرة التوبة والإنابة إلي الله: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾[ ص:30]. 3ـ ومنها ما يؤكد ميراث سليمان لأبيه داود في الملك والنبوة, وليس في المال والممتلكات فقط: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ﴾[النمل:15 ـ 16]. 4ـ ومن تلك المواضع القرآنية ما يشير إلي واقعة تفوقت فيها حكمة سليمان علي حكمة أبيه:﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء:78 ـ79]. 5ـ ومنها ما يصف حب سليمان للخيل, وابتلاء الله ـ تعالي ـ له بفتنة المرض, ودعاء هذا العبد الصالح لله الوهاب أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر الله ـ سبحانه وتعالى ـ له كلا من الريح والجن, والطير, وأسال له عين القطر( أي النحاس المصهور): ﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾[ ص:31ـ40]. ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾[ 81 ـ82]. ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾[ النمل:17 ـ19]. ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[ سبأ:12 ـ13]. 6ـ ومنها ما يصف واقعة الهدهد مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾[ النمل:20 ـ28]. 7ـ ومنها ما يصف واقعة بلقيس ملكة سبأ مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام:ـ ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[النمل:29 ـ37]. 8ـ ومن تلك الآيات القرآنية ما يصف واقعة نقل عرش بلقيس من بلاد اليمن إلي القدس الشريف عبر طرفة عين بمعجزة خارقة للعادة, ومحاولة التغيير في بعض ملامحه:﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾[ النمل:38 ـ41]. 9ـ ومنها ما يصف وصول بلقيس ملكة سبأ إلي قصر سليمان بالقدس وإعلانها قبول الإسلام دينا معه: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾[النمل:42 ـ44]. 10 ـ ومنها ما وصف به نبي الله سليمان بأنه لم يكن نبيا, ولكن كان ساحرا يستعين بالسحر ويستمد العون من السحرة: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾[ البقرة:102 ـ103]. 11 ـ ومنها ما يصف وفاة هذا النبي الصالح سليمان بن داود ـ عليهما السلام:ـ ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ ﴾[ سبأ:14]. ومعظم هذه الوقائع لم يرد عنها شيء في كتب الأولين مما يجعل كل واحدة منها معجزة تاريخية حقيقية بذاتها, تصحح التشويه الذي ساد ذكر نبي الله سليمان في تلك الكتب التي ملئت صفحات عديدة منها بأساطير نزعت عنه النبوة, وقصرت عليه الملك, وهو النبي الصادق الموصول بالوحي والذي يقول عنه القرآن الكريم: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾[ ص:30]. ويقول: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ﴾[ النمل:16]. وهنا يتضح الفارق بين بيان الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ وروايات المخلوقين, فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأيام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:22 pm | |
| ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ ﴾هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في منتصف سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة. وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول، التي أوردت السورة معجزة حملها بابنها عيسي دون أب, ووضعها إياه وليدا يتكلم وهو في المهد. ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ هذا, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة, وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر يعقوب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم, بعد أن سبق لنا استعراض ذلك بالنسبة إلى ذكر أبيه إسحاق ـ عليه السلام ـ. من أوجه الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ جاء ذكر يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم السلام ـ ستة عشر مرة في كتاب الله, كما جاءت الإشارة إليه باسم إسرائيل (أي: عبد الله) مرتين [آل عمران:93, مريم:58], بالإضافة إلى ذكره بوصفه أبا لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ أو لأحد إخوته, أو لهم جميعا في سورة يوسف. ومن ذلك قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ما نصه: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50] وهاتان الآيتان الكريمتان جاءتا بعد حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه, ذلك الحوار الهادئ الرصين من جانب إبراهيم, الابن المؤمن, المؤدب, اللطيف, المهذب, صاحب الرسالة السماوية الذي يحاول جهده هداية أبيه إلى الحق الذي جاءه من الله ـ تعالى ـ بأرق عبارة ممكنة, وبأفضل أساليب التودد والتحبب من ابن وفي لحقوق الأبوة, بار بها, والرد القاسي الجافي المشبع بالاستنكار والتهديد والوعيد من جانب الأب المشرك عابد الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب, الذي طرد ابنه من حضرته مهددا إياه بالقتل إن لم يعد إلى عبادة ما يعبد أبوه وقومه. ويرد الابن المؤمن البار الوفي إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه بما يرويه القرآن الكريم: ﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ ﴾ [ مريم:47 ـ48]. وهنا تتنزل رحمات الله وفضله على عبده إبراهيم الذي اعتزل أباه وأهله وقومه, وهجر دياره فرارا بدينه من بطش الجاهلين, وجهالة الكفار والمشركين فقال ـ تعالى ـ: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50]. وإسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم الذي رزقه الله ـ تعالى ـ إياه بمعجزة خارقة للعادة; لأنه وهب ذلك الابن الصالح على الكبر من زوجته سارة التي كانت عجوزا عقيما, وذلك استجابة إلى دعاء إبراهيم وهو العبد الصالح والرسول الصالح جزاء جهاده في سبيل الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده. ويعقوب هو ابن إسحاق, وابن الابن يعتبر ابنا, خاصة إذا ولد في حياة جده, وهكذا كان يعقوب الذي نشأ في حجر جده, فتعلم منه الإسلام من قبل أن تأتيه النبوة, وهكذا كان أبوه إسحاق من قبله ولذلك قال ـ تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ﴾ [ مريم:50] أي فكانوا (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) صادقين في دعوتهم, مصدقين من الذين آمنوا معهم, محفوفين منهم بما يليق بهم بمقام نبوتهم من الطاعة والاحترام والتكريم, وإن حاربهم أهل الكفر والشرك والضلال كما هي طبيعة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل عبر التاريخ. ولم يذكر القرآن أية تفاصيل عن حياة نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ على الرغم من ورود ذكره ستة عشر مرة في كتاب الله, ولكن تشير بعض الآثار إلى أنه ولد في فلسطين, ثم رحل إلى آرام من أرض بابل بالعراق, وتزوج هنالك من بنات خاله, ورزقه الله ـ تعالى ـ اثني عشر ولدا عرفوا باسم أسباط بني إسرائيل. ثم رحل يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى مصر في زمن القحط الذي كان قد أصاب المنطقة العربية؛ وذلك للحاق بولده يوسف ـ عليه السلام ـ الذي جعله الله ـ تعالى ـ على خزائن مصر, ومات يعقوب بمصر, ولكن ولده يوسف نقله إلى مدينة الخليل, حيث تم دفنه فيها مع توءمه عيص الذي يعرف عند اليهود باسم(Esau). وعلى الرغم من إجمال القرآن الكريم لإشاراته عن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ إلا أن درسا هائلا في العقيدة يمكن استقاؤه من موقف من المواقف الرئيسية في سيرة هذا النبي الصالح, وهو موقفه مع بنيه لحظة احتضاره والذي يصفه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133,132]. وتمتدح أولي هاتين الآيتين الكريمتين نبي الله إبراهيم وحفيده يعقوب ـ عليهما السلام ـ إذ أمر الله ـ تعالى ـ عبده ورسوله إبراهيم بالإسلام فاستجاب على الفور لأمر ربه, ولم يكتف بذلك, فذكر أبناءه بأن الله ـ تعالى ـ قد اصطفى لهم الإسلام دينا, ولذلك أوصاهم بالاستمساك بهذا الدين القويم الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من عباده دينا سواه, وأخذ عليهم العهد ألا يموتوا إلا على الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله ـ تعالى ـ وعلى تنزيهه ـ سبحانه ـ عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وكذلك فعل حفيده يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه فأوصاهم بالاستمساك بالإسلام وتطبيقه نظاما كاملا شاملا للحياة, والدعوة إليه, والموت عليه. أما الآية الثانية فتتوجه بالخطاب إلى الذين يدعون كذبا نسبتهم إلى هذا النبي الصالح: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم جميعا من الله السلام ـ فتقول لهم: هل كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت فعرفتم العقيدة التي مات عليها؟ ألا فلتعلموا أيها الضالون عن الحق حقيقة أن يعقوب ـ عليه السلام ـ حينما حضره الموت دعا إليه جميع بنيه وقال لهم: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133]. وفي ذلك إعلان لوحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتأكيد الأخوة بين الأنبياء, وهاتان الحقيقتان هما من القيم اللازمة لاستقامة الحياة على الأرض, خاصة في زمن الفتن الذي يعيشه إنسان اليوم. وعلى الذين يتشدقون كذبا بالنسبة إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ تارة ـ وإلى يعقوب ـ عليه السلام ـ تارة أخرى أن يقرأوا هاتين الآيتين الكريمتين ليدركوا أن الدين ليس ميراثا يورث, ولكنه قناعة قلبية وعقلية كاملة لا علاقة لها بالدم والنسب, وهو قرار يتخذه كل راشد بعد دراسة وتمحيص دقيق يصل به إلى تلك القناعة القلبية والعقلية الكاملة, وهو ـ قبل ذلك ـ مسئولية الآباء تجاه الأبناء, ولذلك يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" [ سنن أبي داود]. ويرد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلاء الذين يتخيلون أن الإيمان يمكن أن يكتسب بمجرد النسب بقوله الحق الذي يقول فيه: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران:67]. ويتضح لنا من هذا الاستعراض أن هذا الموقف الجليل من يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو يعظ بنيه في لحظة احتضاره هو الدرس الأساسي المستفاد من عرض القرآن الكريم لسيرة هذا النبي الصالح. فيعقوب ـ عليه السلام ـ قد حضره الموت, وجاءته ساعة الاحتضار, وهي لحظة رهيبة تعد أصعب اللحظات التي يمكن للإنسان أن يمر بها في حياته; فهو يغادر الدنيا, يغادر الأهل والأبناء والأصحاب, يترك ثروته من ورائه ـ إن كانت له ثروة ـ لا يدري ماذا سيفعل بها, يترك داره إلى ظلمة القبر وضيقه, وإلى هول الحساب وشدته; يتذكر أعماله فيستغفر ويتوب عن السيئات, ويرجو قبول الحسنات, وترتجف فرائصه من المستقبل المجهول!! ولكن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ لم يشغل باله شيء من ذلك بقدر ما شغله تثبيت أبنائه على الإسلام الذي تعلمه من آبائه في الصغر, وعلمه الله ـ تعالى ـ إياه في الكبر, وأدرك أن هذا الدين هو طوق النجاة في الدنيا والآخرة, فأراد أن يكون الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله هو الميراث الذي يورثه لأبنائه, ووصيته الأخيرة لهم وهو في سكرات الموت ولحظات الاحتضار, والذي يأخذ عليه العهد منهم أن يعيشوا به, وأن يدعوا إليه, وأن يموتوا عليه, كي يكون قد أبرأ ذمته أمام الله, وحملهم أمانة المسئولية عن الإسلام. والدرس المستفاد من هذا الموقف الكريم هو إشعار كل والد بمسئوليته عن أولاده (صغارا وكبارا) وأن من أولويات تلك المسئولية أن يعرف كل واحد منهم عقيدته الصحيحة معرفة دقيقة, حتى يعيش بها, ويموت عليها فيحقق الهدف من وجوده في الحياة الدنيا: عبدا لله ـ تعالى ـ يعبده ـ سبحانه ـ بما أمره, ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, وهذا لا يمكن أن يتم بغير هداية ربانية, وهذه الهداية الربانية علمها الله ـ تعالى ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه, وأنزلها على سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله, ثم أكملها وأتمها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين, وسماها باسم الإسلام, ولذلك قال ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [آل عمران:19]. وقال ـ عز من قائل ـ: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85]. وهذه الحقيقة هي من أروع جوانب الإعجاز العقدي في كتاب الله; لأن كل شيء في الوجود يشير إلى الوحدانية المطلقة للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ التي يقوم على أساسها الإسلام دين الله. وموقف يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه لحظة احتضاره يمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله; لأن يعقوب ـ عليه السلام ـ عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, وهذا الموقف الكريم منه استأثر به القرآن المجيد, ولم يرد له ذكر في كتب الأولين, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:23 pm | |
| ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ ...﴾ [التوبة:40]هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتيم الثلث الأول من سورة التوبة, وهي سورة مدنية, ومن طوال سور القرآن الكريم, إذ يبلغ عدد آياتها مائة وتسعا وعشرين (129). وهذا مما يجعلها سادس أطول سور هذا الكتاب المجيد; وهي من أواخر ما أنزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أنزلت في السنة التاسعة من الهجرة. وقد سميت السورة باسم التوبة لورود هذه الكلمة ومشتقاتها في اثنتي عشرة آية من آياتها; كما سميت باسم براءة, وهي الكلمة التي استهلت بها, وعرفت هذه السورة باسم الفاضحة, والمخزية, والمثبرة (أي المهلكة), والمنكلة, وسورة العذاب, وذلك لفضحها المنافقين, الذين أنذرت بهلاكهم والنكال بهم, ووصفت عذابهم في الدنيا والآخرة, كما سميت باسم المحفزة أو الحافزة لتحفيزها المؤمنين على الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء دينه. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة التوبة, وما جاء فيها من التشريعات الإسلامية, وركائز العقيدة, والإشارات الكونية, والدلالات التاريخية والإنبائية, ونركز هنا على التوثيق التاريخي لهجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبصحبته سيدنا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كما يسجله النص القرآني من هذه السورة المباركة الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال. التوثيق التاريخي في النص الكريم يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه: ﴿إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾] التوبة:40[. وهذه الآية الكريمة توثق توثيقا تاريخيا دقيقا لمرحلة من مراحل هجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه صاحبه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وهما مختبئان في غار ثور, وكفار ومشركو قريش يطاردونهم في كل بقعة من أرض مكة بعد أن كانوا قد تأمروا عليه وانتمروا به, وقرروا التخلص منه إما بالسجن حتى الموت, أو بالقتل بأيدي ممثلين لجميع بطون قريش حتى يتفرق دمه بين القبائل, أو بالنفي الكامل من أرضه, فأطلعه الله ـ سبحانه وتعالى ـ على ما ائتمروا به, وأوحى إليه بالخروج, فخرج هو وصاحبه الصديق الذي حمل معه كل ما بقي عنده من مال, حتى لجآ إلى غار ثور إلى حين هدوء حملة قريش المذعورة في تقفي أثرهما ومحاولة اللحاق بهما. وتسجل كل من كتب السيرة وكتب التاريخ أنه في فجر يوم الجمعة الموافق27 من شهر صفر سنة 14 من البعثة النبوية الشريفة (الموافق622/9/13 م) هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ من مكة المكرمة في طريقهما إلى المدينة المنورة انصياعا لأمر الله ـ تعالى ـ بعد ثلاث وخمسين سنة قضاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة, ولم تكن هجرته فرارا من الاضطهاد, ولا بحثا عن الأمن, ولكن استعدادا للجهاد في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمته في الأرض, وإقامة دولة الإسلام في يثرب. وكان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قد أعد ناقتين للخروج, ودليلا للطريق, وأمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول القرشيون فيهما طيلة النهار, ثم يأتيهما إذا أمسى الليل بما يكون من أمر المشركين, وما يدبرون من كيد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه. كذلك درب ابنته أسماء ـ رضي الله عنها ـ على حمل الزاد من الطعام والشراب إليهما في الغار, ثم تعود مع أخيها إلى مكة قبل طلوع الفجر. وأمر الصديق ـ رضي الله عنه ـ خادمه ومولاه عامر بن فهيرة أن يرعى الغنم في اليرق بين مكة وجبل ثور, ليعفو على آثارهما وعلى آثار المترددين عليهما في الغار. وليلة الهجرة النبوية الشريفة, قام أحد عشر شابا من كفار ومشركي قريش بتطويق بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في محاولة لرصد حركته حتى نام, وعند منتصف الليل قام ليأمر عليا بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بالنوم في فراشه وكلفه برد أمانات الناس المودعة عنده, وخرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ من داره بعد منتصف الليل, وشباب قريش محيطون بالدار وهم متوشحون سيوفهم ينتظرون تنفس الصبح ليضربوا عنق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند خروجه عليهم ضربة رجل واحد؛ كي يعرف الجميع أن كل قبائل مكة قد اشتركت في إراقة دم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ, ولكنه خرج مخترقا صفوفهم دون أن يشعروا به, فقد أغشى الله أبصارهم فلم يدركوه, وأخذ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينثر التراب على رءوسهم وهو يتلو قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ ] يس:9[. وبعد مغادرته داره تحرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى دار أبي بكر ثم انطلقا في رحلة الهجرة المباركة إلى غار ثور, وشباب كفار ومشركي قريش مرابطون حول داره ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يئسوا من خروجه عليهم, فبدأوا ينظرون من ثقب الباب فيروا شخصا ينام في فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومتسجيا ببرده الحضرمي الأخضر, فظنوا أن رسول الله لا يزال نائما, فاطمأنوا حتى طلع الصبح, وخرج عليهم على ـ كرم الله وجهه ـ فتبين لهم أنهم قد باءوا بالفشل والخسران والندم. تحرك الرسول وصاحبه في اتجاه الجنوب من مكة المكرمة تمويها على مشركي قريش الذين يعرفون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج يقصد المدينة إلى الشمال من مكة, وسارا لمسافة عشرة كيلو مترات على أقدامهما حتى وصلا إلى جبل ثور وأبو بكر مشفق على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خائف عليه من أن تلمحه عين راصد, فتارة يمشي أمامه, وتارة يأتي خلفه, وثالثة يمشي على يمينه, ورابعة على يساره, فسأله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبب ذلك, فقال أبو بكر: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك, ومرة عن يسارك, لا آمن عليك. وكان جبل ثور صعب المرتقي, كثير الأحجار, شامخ الارتفاع, فصعداه بصعوبة شديدة حتى وصلا إلى فم الغار, وهمَّ النبي بالدخول إلى الغار فسبقه أبو بكر قائلا: لا تدخل يا رسول الله حتى أدخله قبلك, فإن كان فيه شيء أصابني دونك. ودخل أبو بكر الغار أولا, ودار على جوانبه يتفحصها, فوجد فيها عددا من الفتحات فشق ثوبه إلى قطع صغيرة, وبدأ في سد تلك الفتحات بها, وبقيت فتحتان متجاورتان لم يبق من قطع ثوبه شيء ليسدهما به, فوضع قدميه عليهما خشية أن يكون بهما من الهوام ما قد يؤذي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نادى عليه فدخل وهيأ أبو بكر حجره ليضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأسه عليه, فجاء ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام من شدة الإجهاد والتعب. ثم فوجئ أبو بكر بحية في أحد الجحرين اللذين سدهما بقدميه تلدغه في إحدى قدميه, فتحامل على نفسه, ولم يحرك قدمه حتى لا تخرج الحية فتؤذي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن زاد عليه الألم فبدأ يبكي بكاء مكتوما كي لا يوقظ الرسول من نومه, ولكن سقطت بعض دموعه رغما عنه على وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنبه واستيقظ قائلا: مالك يا أبا بكر؟ فقال: لدغت فداك أبي وأمي, فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعالجة مكان اللدغة فشفيت, وذهب الألم الذي كان يجده أبو بكر. وعندما طلع الفجر ووصل نور الصباح إلى داخل الغار لاحظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أبا بكر لا يلبس ثوبه الذي خرج به من داره, فسأله النبي عنه فأخبره بأنه قد مزقه ليسد به جحور الغار خوفا عليه من الهوام, فرفع النبي يديه إلى السماء وقال: اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة. شمر كفار ومشركو قريش عن سواعدهم في طلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه, وجندوا كل إمكاناتهم في سبيل تحقيق ذلك, وأعلنوا عن مكافأة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنا ما كان. وطمعا في المكافأة جد كل من الفرسان وقصاصي الأثر في طلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه, وانتشروا في الجبال والوديان من حول مكة حتى وصل المقتفون للأثر إلى باب غار ثور, وقال أحدهم: والله ما جاز مطلوبكم هذا المكان, وسمعه أبو بكر فبكي بكاء مكتوما, وهمس لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا; لو هلك أبو بكر لهلك فرد واحد, أما أنت يا رسول الله لو هلكت لذهب الدين وهلكت الأمة, والله ما على نفسي أبكي, ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فطمأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا. وتسجل الآية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال حوار أبي بكر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار تسجيلا توثيقيا دقيقا لواقعة حدثت من قبل1431 سنة، مما يعتبر وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله يشهد له بالربانية, كما يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة. ومكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغاز ثلاث ليال, حتى يئس المطاردون من كفار ومشركي قريش من الوصول إليهما, فأمنا الطريق بعد ذلك إلى يثرب. ولما هدأ الطلب في المغارات المحيطة بمكة, جاء عبد الله بن أبي بكر بالراحلتين اللتين كان أبوه قد أعدهما لتلك الرحلة المباركة, وبالدليل عبد الله بن أريقط, وبالراعي عامر بن فهيرة, كما جاءت أسماء بنت أبي بكر بزاد رحلتهما. وخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه من الغار في ليلة الاثنين غرة ربيع الأول في السنة الأولي للهجرة (الموافق622/9/16 م), فقدم أبو بكر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الراحلتين حتى ركبها وركب هو الأخرى, وانطلقا سالكين طريق الساحل وهو أطول من الطريق الجبلي, وذلك إمعانا في التعمية على المطاردين. وفي الطريق لحق بالمهاجرين أحد فرسان قريش واسمه سراقة بن مالك, فلما قرب منهما غاصت أقدام فرسه في الرمال فاستجار برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجاره, ثم دفعه الطمع إلى تناسي ما وقع له, فاندفع محاولا اللحاق بركب المهاجرين ويحدث له أشد مما وقع له, وتكرر ذلك مرارا حتى آمن بأنه لا سبيل له إلى ركب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعاد أدراجه صادا للطالبين ورادا للمتعقبين ركب الرسول وصاحبه, والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: اللهم اصحبني في سفري, واخلفني في أهلي. وفي الطريق إلى المدينة نزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه ومن معهما لشيء من الراحة والتزود بزاد السفر, فمروا في منطقة قديد على خيام لأم معبد الخزاعية, فسألوها أن تبيعهم شيئا من اللحم أو اللبن أو التمر, فشكت أن المنطقة تمر في شدة من الجدب والعوز قائلة: والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القرى. ثم أبصر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاة في جانب الخيمة, فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم, قال: أفهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي, نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها.. فدعى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة فمسح بيده الشريفة ضرعها, وسمى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ودعا لها فدرت اللبن واجترت, وعلى الفور دعا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإناء كبير فحلب فيه واللبن ينزل غزيرا حتى امتلأ الإناء, فقدمه إلى أم معبد فشربت حتى رويت, وسقى أصحابه حتى رووا, وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخر من شرب, ثم حلب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإناء ثانية حتى امتلأ, وتركه لأم معبد وأهل بيتها. فلما عاد أبو معبد يسوق غنماته العجاف ورأى إناء اللبن عجب لذلك, وسأل زوجته: من أين لك هذا اللبن؟ قالت: مر بنا رجل مبارك, قال صفيه لي, فوصفته, قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش. وصل خبر خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة قاصدا يثرب إلى مسلمي هذه المدينة فكانوا يمشون كل غداة إلى الحرة, ينتظرون وصوله حتى يردهم حر الظهيرة, فعادوا يوما بعد أن أطالوا انتظارهم ليسمعوا بوصول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلى قباء في صباح الاثنين الثامن من ربيع الأول في السنة الأولي للهجرة (الموافق622/9/23 م) فاستقبلوهما بالترحاب والبهجة والفرح, وقضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قباء بضع عشرة ليلة, وأسس فيها مسجد قباء وهو أول مسجد أسس على التقوى. ثم تحول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة حيث تزاحم أهلها على زمام ناقته كل يريد أن يظفر بنزول رسول الله وصحبه عنده فيقول الرسول: دعوها فإنها مأمورة حتى بركت في مكان فسيح مخصص لتجفيف التمر يملكه غلامان يتيمان في المدينة, فقام الأنصار بشراء الأرض التي بني عليها المسجد النبوي الشريف, وقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج, وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, وبعقد المعاهدات مع اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة, وقام بوضع دستور المدينة, أول دستور عادل تعرفه البشرية, الذي على أساسه قامت دولة الإسلام. من هنا يتضح وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال, الذي يشهد لكتاب الله بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, ويشهد للنبي الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:24 pm | |
| هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة الأنفال, وهي سورة مدنية, وآياتها خمس وسبعون (75) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم (الأنفال) أي المغانم جمع (نفل) بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي, إشارة إلى الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبرى. وقد سميت الغنائم بالأنفال احتقارا لشأنها أمام رد الظالم الصائل, الجائر, وأمام واجب حماية الدين, والعرض, والنفس, والمال, وهي من ضرورات الحياة, ومن الأهداف الرئيسية للجهاد الإسلامي, أما الغنائم المتحققة من الجهاد في سبيل الله فهي زيادة على ذلك, ونافلة منه. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأنفال وما جاء فيها من التشريعات الإسلامية وركائز العقيدة, ونركز هنا على ومضة الإعجاز الإنبائي في الآية الثلاثين من هذه السورة المباركة, وهي الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال. من الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة: في التعليق على هذه الآية الكريمة أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قوله: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ـ يريدون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقل بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك, فبات علي ـ رضي الله عنه ـ على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أصبحوا ثاروا إليه; فلما رأوه عليا رد الله ـ تعالى ـ عليهم مكرهم, فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم, حتى صعدوا الجبل, فمروا بالغار, ورأوا على بابه نسج العنكبوت, فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.. فمكث فيه ثلاث ليال. ويذكر الإمام البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعلم أن قومه سوف يخرجونه من مكة حين لقي ورقة بن نوفل في صبيحة تلقيه الوحي لأول مرة فقال له ورقة فيما قال: يا ليتني فيها جذعا, ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أو مخرجي هم؟! قال ورقة: نعم; لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي, وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ولذلك فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن خذله أهل الطائف وبالغ كفار ومشركو مكة في اضطهاده واضطهاد أصحابه, عاد إلى مكة في أمان أحد المشركين وبدأ يعرض نفسه على القبائل في مواسم التجارة والحج يشرح لهم دين الله (الإسلام) ويدعوهم إلى التوحيد الخالص لله, وإلى الالتزام بمكارم الأخلاق, ويطلب إليهم الإيواء والنصرة حتى يبلغ الناس بهداية رب العالمين لهم قائلا: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني, حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي. وحينما سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إلام تدعونا؟ قال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأني عبد الله ورسوله, وإلى أن تؤووني وتنصروني, فإن قريشا قد تظاهرت على الله, وكذبت رسوله, واستغنت بالباطل عن الحق, والله هو الغني الحميد, ثم تلا على السائل قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام:151].
ويقول جابر بن عبد الله الأنصاري عن ذلك ما نصه: مكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة عشر سنين, يتبع الناس في منازلهم, بعكاظ ومجنة, وفي المواسم بمني, يقول: من يؤويني؟ من ينصرني, حتى أبلغ رسالة ربي, وله الجنة؟ والمقاومة ضده شديدة, حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مصر, ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك, وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع, حتى بعثنا الله إليه من يثرب, فآويناه وصدقناه, فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن, فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه, حتى لم يبق دار من الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام (مسند الإمام أحمد). وقد أثمرت الاتصالات الأولى بأهل يثرب بإسلام رجلين في أول الأمر, وتلا ذلك إسلام ستة من الرجال من الخزرج, ثم كانت بيعة العقبة الأولى مع اثني عشر رجلا (عشرة من الخزرج, واثنان من الأوس) وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع المبايعين سفيره إلى أهل يثرب مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ الذي دعا أهل هذه المدينة إلى الإسلام, وكان يعلمهم الدين, ويقرئهم ما حفظ من كتاب الله, وكان يؤم مسلميهم في الصلاة. وكان من نبل خلقه وحسن إسلامه أن تمكن من نشر الإسلام بين أهل يثرب خاصة بين زعماء قبائلها وكبار شخصياتها الذين أسلم بإسلامهم كثير من أهل هذه المدينة. ثم كانت بيعة العقبة الثانية التي أسلم فيها ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من أهل يثرب, ويصف جابر بن عبد الله الأنصاري تلك البيعة بكلام طويل نختار منه قوله: (... فقلنا: حتى متى نترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطرد في جبال مكة ويخاف, فرحل إليه منا سبعون رجلا, حتى قدموا عليه في الموسم, فواعدناه شعب العقبة, فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين, حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: تبايعون على السمع والطاعة في النشاط والكسل, والنفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وأن تقولوا في الله, لا تخافون في الله لومة لائم, وعلى أن تنصروني فتمنعوني, إذا قدمت عليكم, مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم, ولكم الجنة. قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه...). وفي رواية لكعب بن مالك الأنصاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: (تسعة من الخزرج, وثلاثة من الأوس). وعندما علم كفار ومشركو قريش بأخبار تلك البيعة ثارت ثائرتهم على المسلمين في مكة, وازداد إيذاء المشركين لهم, فأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين بالهجرة إلى يثرب, فأخذوا في ذلك حتى لم يبق في المدينة إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعلى ـ رضي الله عنهما ـ أو قليل من المرضى والضعفاء أو الذين فتنتهم قريش بالاختطاف, أو بالسجن, أو بالتفريق بين المرء وزوجة وولده, أو نهب الأموال والثروات.وتروي لنا أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ عن هجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلة: (كان لا يخطئ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار, إما بكرة, وإما عشية, حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الهجرة, والخروج من مكة بين ظهري قومه, أتانا رسول الله بالهاجرة (أي عند الزوال) في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الساعة إلا لأمر حدث, قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره, فجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس عند أبي بكر إلا أنا, وأختي أسماء بنت أبي بكر, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أخرج عني من عندك, فقال: يا رسول الله, إنما هما ابنتاي, وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة, قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح, حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ, ثم قال: يا نبي الله! إن هاتين راحلتان, قد كنت أعددتهما لهذا, فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلا من بني الديل بن بكر, وكانت أمة امرأة من بني سهم بن عمرو, وكان مشركا ـ استأجراه كي يدلهما على الطريق ـ فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. وأضافت أم المؤمنين قائلة: (فجهزناهما أحسن الجهاز, وصنعنا لهما سفرة في جراب, فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها, فربطت به على فم الجراب, فبذلك سميت ذات النطاقين, ثم لحق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر, بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال, يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر, وهو غلام, شاب, ثقف, لقن, فيدلج من عندهما بسحر, فيصبح مع قريش بمكة كبائت, فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام, ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء, فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما ـ حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس (أي في ظلمة آخر الليل). فعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث, واستأجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رجلا من بني الديل.. هاديا وخريتا (ماهرا بالهداية في الطرق)... فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما, وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث, وانطلق معهما عامر بن فهيرة, والدليل فأخذ بهم طريق السواحل) (البخاري). وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر علي بن أبي طالب أن يخلفه في فراشه تمويها للذين كانوا يحاصرون داره من مشركي قريش; حتى يخرج سالما من بينهم وحتى يؤدي علي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الودائع التي كانت عنده للناس. وعند خروجه من مكة وقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحزورة في سوق مكة وقال: والله إنك لخير أرض الله, وأحب أرض الله إلى الله, ولولا أني أخرجت منك ما خرجت( الترمذي). وعلى الرغم من أن سورة الأنفال مدنية, والآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال نزلت بالمدينة المنورة بعد الهجرة النبوية الشريفة بعامين, فإنها تذكر بما كان في مكة من ظلم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولصحابته الكرام من قبل كفار ومشركي قريش, كما تذكر بفضل الله ـ تعالى ـ الذي نصر المسلمين نصرا مؤزرا في معركة بدر الكبرى على هؤلاء الكفار والمشركين. والآية توحي بوجه من أوجه الإعجاز الإنبائي حين أخبر الوحي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخطة زعماء الكفر من قريش ليوثقوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحبسوه حتى يموت, أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ومن دعوته, أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا, ثم استقر رأيهم بعد مداولات طويلة في دار الندوة أن يقتلوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يتولى إثم ذلك فتية أشداء يمثلون أغلب بطون مكة حتى يتفرق دمه في القبائل, وذلك مما يعجز بني هاشم عن قتالهم جميعا, فيرضوا بالدية, وينتهي الصراع بين دعوة الحق التي يحملها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعاوى الباطل العديدة التي يتحمس لها الكفار ومشركو قريش عن جهل فاضح. هذا ما تمنته قريش, ولكن الله ـ تعالى ـ كان لهم بالمرصاد فأخبر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمخططهم الشيطاني, وبموعد تنفيذه, فرتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر هجرته الشريفة مع أبي بكر, وكتب الله ـ تعالى ـ لهما النجاة من مخطط الكفار والمشركين.وتبقي هذه الآية الكريمة شاهدة على هذه المعجزة الإنبائية من الله ـ تعالى ـ إلى خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي أكدتها روايات الثقاة من أهل بيت النبوة, وممن عايش هذه المعجزة من الصحابة الكرام, وحتى من بعض زعماء الكفر الذين اعترفوا بمخططهم الشيطاني بعد نجاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه الكريم تماما كما بينته هذه الآية القرآنية المجيدة. وهذا الإنباء مما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية, في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) على مدى يزيد على أربعة عشر قرنا, وتعهد ـ سبحانه وتعالى ـ بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم حجة الله البالغة على خلقه أجمعين إلى أن يشاء الله رب العالمين. فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلى الله وسلم, وبارك عليه وعلى آله وصحبه, ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:25 pm | |
| ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:26 pm | |
| ﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ ﴾ [مريم:54]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات النصف الثاني من سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة, وقد سميت بهذا تكريما للسيدة البتول مريم بنت عمران ـ رضي الله عنها ـ التي أوردت السورة معجزة حملها بابنها عيسي من أم بلا أب, ووضعها إياه وليدا يتكلم وهو في المهد.ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ مركزة علي توحيد الله ـ سبحانه وتعالي ـ وتنزيهه عن الشريك, وعن الشبيه, وعن المنازع, وعن الصاحبة والولد, وعن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة مريم وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله ورسوله إسماعيل ـ عليه السلام ـ الذي ـ لم يدون المؤرخون شيئا عنه, ولم تذكر كتب الأولين إلا النزر اليسير من سيرته, والذي جاء مشوها ومحرفا.من أوجه الإعجاز التاريخي والتربوي في النص القرآني الكريم: يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياًّ ﴾ [ مريم:54 ـ55]. والآيتان فيهما أمر من الله ـ تعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يذكر للناس ما أنزل عليه من القرآن الكريم في سرد قصة رسول الله إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ الذي كان مثالا في صدق الوعد, وقد أثبت ذلك حين وعد أباه بالصبر علي ذبحه له وفاء بأمر الله ـ تعالي ـ لأبيه أن يذبحه, ووفي إسماعيل بوعده وفاء كاملا, ففداه الله الكريم بذبح عظيم, وأكرمه وشرفه بالنبوة والرسالة عندما بلغ سن النبوة.
وتذكر الآيتان الكريمتان من مناقب هذا الرسول الكريم أنه كان يأمر أهله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, حتى بلغ مقاما كريما من رضا ربه عليه: هذا وقد جاء ذكر عبد الله ورسوله إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ اثنتا عشرة(12) مرة.ومن الدروس المستفادة من عرض القرآن الكريم لقصة نبي الله إسماعيل ما يلي: 1 ـ أن الإنسان إذا حرم شيئا من خير الدنيا دون تقصير من جانبه, فعليه بالدعاء الصادق إلي الله ـ تعالي ـ فقد قارب نبي الله إبراهيم سن التسعين دون أن يرزق الولد, فألح علي الله بالدعاء أن يهبه الذرية الصالحة, فاستجاب الله الخالق الباريء المصور دعاء عبده ونبيه إبراهيم ورزقه ابنه إسماعيل علي الكبر من زوجته الثانية السيدة هاجر عليها رضوان الله, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ﴾ [ الصافات:99 ـ101]. 2ـ أن الثقة في الله ـ تعالي ـ هي مصدر كل خير, فقد ابتلي نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالأمر الإلهي أن يضع زوجه السيدة هاجر ورضيعها إسماعيل في بقعة محددة من وادي مكة عند قواعد البيت الحرام, وهي يومئذ أرض قفر لا ماء فيها ولا بشر, وترك عندهما جرابا فيه شيء من التمر, وسقاء فيه قليل من الماء, ثم قفل راجعا في طريقة الي فلسطين, فتبعته أم إسماعيل قائلة: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا نبت ولا ماء؟ ورددت أم إسماعيل خطابها هذا لزوجها الراحل عنها مرارا, وهو لا يلتفت إليها فأدركت بفطرتها حتمية أن يكون ذلك الأمر من الله ـ تعالي ـ لعلمها بأن زوجها من أولي العزم من الرسل فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فأدار وجهه إليها قائلا:"نعم" فردت علىالفور بيقين الواثق بالله, المؤمن به, والمتوكل عليه قائلة إذا لا يضيعنا ثم رجعت إلي حيث تركت رضيعها, وانطلق إبراهيم ـ عليه السلام ـ في طريقه حتى إذا كان عند الثنية استقبل بوجهه موضع قواعد البيت ورفع يديه داعيا الله ـ تعالي ـ أن يخلفه في زوجه ووحيدة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم علي لسان نبي الله إبراهيم ما نصه:﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾[ إبراهيم:37]. فاستجاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأكرم زوجه السيدة هاجر ـ عليها رضوان الله ـ جزاء ثقتها المطلقة في رحمة الله, فأرسل عبده جبريل ـ عليه السلام ـ وقد نفد الماء من السقاء, وبدأ الرضيع في البكاء وأخذت أمه تهرول بين الصفا والمروة, وتعلو كل واحدة منهما عساها أن تري طيرا يحط فوق شيء من الماء, أو قادما يحمل معه سقاء, وفعلت ذلك سبع مرات دون جدوى, فجاءها جبريل ـ عليه السلام ـ قائلا: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لا يضيع أهله, ثم قام بضرب الأرض بجناحه أو بعقبه فانفجرت بئر زمزم, وفرحت بها أم إسماعيل فرحا شديدا وخشيت أن يفيض الماء في الوادي فأخذت تحوط البئر بالرمال والحصى والأحجار وتقول لها زمي زمي ولذلك عرفت البئر باسم زمزم, وفي ذلك يقول المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم: رحم الله أم إسماعيل لو تركتها كانت عينا معينا.( مسند أحمد). وبقيت بئر زمزم تفيض بخير ماء علي وجه الأرض( كما وصفه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم) وظلت تفيض لقرابة أربعة آلاف سنة من صخور نارية ومتحولة عديمة المسامية لتبقي آية شاهدة علي كرامة المكان, وكرامة لنبي الله إسماعيل ولأمه ـ عليهما السلام ـ ثم شاء الله ـ تعالي ـ أن يمر بوادي مكة نفر من قبيلة جرهم عائدين بتجارتهم من بلاد الشام إلي أرض اليمن فتعجبوا من وجود الماء في عين زمزم, فاستأذنوا من أم إسماعيل أن يجاوروها وابنها إسماعيل فأذنت لهم, وتحققت دعوة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ التي يسجلها القرآن الكريم علي لسانه بقوله::﴿ ... فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم37]. 3 ـ أن الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان واختبار, وأن النجاح في الابتلاءات الدنيوية هو الطريق إلي جنة الخلد بإذن الله, وعلي ذلك فإن الإنسان إذا تعرض لشيء من الابتلاء فرضي بقضاء الله وقدره, وصبر عليه, فإما أن يرفع الله ـ تعالي ـ عنه البلاء أو يبين له خير هذا القضاء أو القدر. ويتضح ذلك جليا في موقف كل من نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل من أمر الله ـ تعالي ـ له أن يضع رضيعه الذي منحه علي الكبر مع أمه في واد غير ذي زرع علي بعد آلاف الكيلومترات من مسكنه. ويرضي كل منهم بقضاء الله وقدره, وبعد أن شب الرضيع وبدأ يتحمل مسئوليات أمه يأمره الله أن يذبح وحيده الذي رزقه في شيخوخته, بعد أن شب وحيده وأصبح قادرا علي السعي معه في تحقيق مطالب العيش ومستلزمات الحياة, وهو ابتلاء لا يقوي عليه أشد الناس إيمانا بالله ـ سبحانه وتعالي ـ ونجح كلاهما في هذا الابتلاء نجاحا استحق جزاء الله وثناءه علي كل منهما, وجعل من هذا الموقف النبيل سنة النحر في عيد الأضحى, إحياء لذكري هذا الحادث العظيم الذي يبقي رمزا لحقيقة الإيمان بالله, والتسليم الراضي لقضائه, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات102 ـ110]. 4 ـ أن الدعاء هو مخ العبادة, وإذا صدر من القلب بإخلاص وتجرد لله ـ تعالي ـ استحق الإجابة, وإن عز الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة قائمان علي درجة إيمانه بالله ـ تعالي ـ وإسلامه الوجه له, وعلي الخضوع بالطاعة لجلاله, والاستعداد لسرعة التوبة إليه, والثقة الكاملة بطلاقة القدرة الإلهية, واليقين الجازم بأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله, وقد اتضحت كل هذه القيم الإيمانية بجلاء في استعراض القرآن الكريم لسيرة كل من نبي الله إبراهيم وولده الصالح إسماعيل ـ عليهما من الله السلام ـ ولذلك شرفهما الله ـ سبحانه وتعالي ـ بتكليفهما برفع القواعد من البيت العتيق, بعد أن كان قد تهدم ومحيت آثاره إلا القواعد, وهو عمل تقف دون تحقيقه جهود آلاف الرجال, وأكرمهما الله ـ تعالي ـ باستجابة دعائهما بتحقيق البركة في ذريتهما وببعثة الرسول الخاتم من تلك الذرية المباركة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [ البقرة127 ـ129]. وهذا موقف من مواقف العبودية الحقة يرجو فيه نبيان من أنبياء الله أن يثبتهما الله ـ جلت قدرته ـ علي الإسلام الخالص وأن يثبت ذريتهما عليه, ويطلبان من الله ـ تعالي ـ الهداية وقبول التوبة, لأنهما يعلمان تمام العلم بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. 5 ـ أن الله ـ تعالي ـ يصطفي من عباده الصالحين من يبلغ هدايته إلي الناس, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [ الحج75]. ولهذا الاصطفاء الإلهي ضوابطه: من سلامة الجسد, ورجاحة العقل, وطهارة القلب, وسلامة الفطرة, لتوافر هذه الصفات في عبد الله إسماعيل بن إبراهيم, فقد من الله ـ تعالي ـ عليه بالنبوة وبالرسالة, وبعثه إلي كل من العماليق وقبيلة جرهم, وقبائل اليمن فنهاهم عن عبادة الأصنام والأوثان, ودعاهم إلي عبادة الله ـ تعالي ـ وحده بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد كما دعاهم إلي تنزيهه ـ تعالي ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, فآمنت له طائفة منهم وكفرت غالبيتهم, وظل يدعوهم حتى وافته منيته, ودفن في حجر الكعبة. حيث كانت قد سبقته إليه أمه فسمي باسم حجر إسماعيل وكان من ذريته العرب العاربة.
ويصف القرآن الكريم النبي الصالح إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قائلا له واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا)[ مريم54 ـ55]. ولما كان كل من النبوة والرسالة قد ختم ببعثة الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ فإن علي كل من يريد أن يحظي برضاء ربه أن يتأسي بنبيل الصفات التي وصف بها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عبده ورسوله إسماعيل بن إبراهيم ـ عليما السلام ـ ومنها: صدق الوعد, والاجتهاد في الدعوة إلي دين الله, والحرص علي أمر الأهل بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة, وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلي وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء, ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء" ( سنن ابن ماجه). هذه الدروس الخمسة المستقاة من استعراض القرآن الكريم لسيرة عبد الله ورسوله إسماعيل بن إبراهيم هي من جوانب الإعجاز التربوي والتاريخي في كتاب الله; وذلك لنبل مقاصدها التربوية, ولعدم وجود أية إشارة لها في كتب السابقين, خاصة أن نبي الله إسماعيل قد عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, أي قبل تنزل القرآن الكريم بأكثر من ألفي سنة. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:27 pm | |
| ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس:92هذا النص القرآني الكريم جاء في الربع الأخير من سورة يونس, وهي سورة مكية, وآياتها تسع ومائة بعد البسملة, وقد سميت باسم نبي الله يونس ـ عليه السلام ـ لورود ذكر قومه في أواخر السورة التي يدور محورها الرئيسي حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة يونس وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية, والإشارات العلمية والتاريخية, وبعض طبائع النفس الإنسانية, ونركز هنا علي بعض جوانب الإعجاز التاريخي في ذكر قصة نبي الله موسي وشقيقه النبي هارون ـ عليهما السلام ـ مع فرعون وقومه, وفي الخطاب القرآني الموجه إلي أحد فرعوني موسي كما جاء في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز التاريخي في النص الكريم:- بعد تحرير مصر من الهكسوس في أوائل عهد الأسرة الثامنة عشرة, انتهي حكم هذه الأسرة بموت الملك حور محب, ثم جاءت الأسرة التاسعة عشرة بدءا بالملك رمسيس الأول(1308 ق.م. إلي1306 ق.م) الذي حكم لفترة قصيرة( نحو السنتين), ثم خلفه ابنه سيتي الأول(1306 ق.م ـ1290 ق.م) ثم من بعده حفيده رمسيس الثاني ابن سيتي الأول, والذي عرف باسم فرعون الاضطهاد وحكم مصر لفترة طويلة تقدر بنحو(67) سنة( من1290 ق.م إلي1223 ق.م), وطوال مدة حكمه بلغ اضطهاده لبني إسرائيل مبلغه, وولد نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ في زمن حكمه, وتربي في بيت الفرعون من بعد فطامه في بيت أمه, وبقي في قصر فرعون إلي أن بلغ أشده( ثلاثين سنة), وفي يوم من الأيام دخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته( إسرائيلي) والآخر من عدوه, فاستنجد به الذي من شيعته فوكز موسي الذي من عدوه وكزة أدت إلي وفاته, فاستغفر موسي ربه لأنه ما كان يقصد قتل المصري. ولما شاع الخبر وطلب الفرعون رأس موسي فر موسي إلي أرض مدين, حيث عاش عشر سنوات في كنف نبي الله شعيب الذي صاهره موسي بزواج احدي ابنتيه, ثم استأذنه في العودة إلي مصر فأذن له. وفي أثناء ارتحال موسي وأسرته من أرض مدين إلي مصر تلقي موسي الأمر الإلهي بتبليغ رسالة الله إلي فرعون وملئه ومنها السماح للإسرائيليين بالخروج من مصر, وأعطاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ من المعجزات الحسية ما يشهد له بصدق نبوته. وبعد وصوله إلي أرض مصر تبين موسي أن رمسيس الثاني كان قد مات وهو في أرض مدين, وخلفه من بعده ابنه مرنبتاح( أو منفتاح) الأول فذهب مع أخيه هارون إلي مرنبتاح يدعوانه إلي الإيمان بالله الواحد الأحد, ويطلبان منه السماح لبني إسرائيل بالخروج معهما من أرض مصر إلي بلاد الشام والذين كانوا قد استذلهم رمسيس الثاني بأكثر مما استذلهم به أسلافه فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم أولا: لأنهم كانوا علي التوحيد وسط بحر من الوثنيات القديمة, وثانيا: لأنهم كانوا يتعاونون سرا مع الهكسوس من أجل عودتهم إلي احتلال أرض مصر بعد أن كانوا قد أخرجوا منها, خاصة أن الإسرائيليين علي أرض مصر كانوا قد خانوا عهد الفرعون سيتي الأول( والد رمسيس الثاني) وتعاونوا مع أهل بلاد الشام ضده, كما خانوا عهود رمسيس الثاني وعرضوه لخدعة كلفته فيلقا كاملا من جنده, وكادت تلك الخدعة أن تودي بحياة هذا الفرعون نفسه في معركة قادش, ولذلك استمر ابنه مرنبتاح في اضطهادهم. وكان بنو يعقوب قد وفدوا إلي أرض مصر زمن القحط الذي ضرب منطقة المشرق العربي( نحو سنة1728 ق.م) بعد أن بيع يوسف بن يعقوب رقيقا لعزيز مصر, ثم أكرمه الله ـ تعالي ـ بعد سلسلة من الابتلاءات بأن جعله أمينا علي خزائن أرض مصر. وبعد أن عاد رمسيس الثاني من معركة قادش بعد توقيع الصلح مع الحيثيين بدأ المبالغة في التنكيل بالإسرائيليين لخيانتهم له, ثم لرؤيته في المنام رؤيا فسرت له بأن غلاما يولد في بني إسرائيل يتحقق علي يديه هلاك فرعون مصر وزوال حكمه. ولقد أزعج تفسير هذه الرؤيا رمسيس الثاني إزعاجا شديدا, وفي غمرة ذلك أمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل فور ولادته, وأن يترك الإناث من هذه المواليد للقيام بالخدمة في بيوت المصريين, ثم مع الشكاوي المتعددة أمر بذبح الغلمان الإسرائيليين عاما وإعفائهم من القتل عاما. ونظر لخيانات الإسرائيليين المتكررة لم يشركهم المصريون في عمليات القتال, وكان الفرعون يسخرهم في الأعمال المدنية الشاقة من مثل قطع الأحجار, وصناعة الطوب, وأعمال البناء, ولما كانت غالبيتهم أهل بداوة ورعي, فإنهم لم يتعودوا علي مثل هذه الأعمال الشاقة فتمردوا عليها, وطالبوا بالخروج إلي بلاد الشام, ولما كان مثل هذا الخروج قد يضيف قوة إلي أعداء مصر المتربصين بها الدوائر فقد تمسك كل من رمسيس الثاني وابنه مرنبتاح الأول بعدم خروج الإسرائيليين من أرض مصر, وزاد استذلالهم والتنكيل بهم. جاء موسي وهارون إلي فرعون مصر مرنبتاح الأول يبلغانه رسالة ربه, وأطلعاه علي ما يشهد لهما بالنبوة من المعجزات الحسية فرد فرعون بأنه السحر, وتحداهما بسحرته, وعند اللقاء ألقي السحرة سجدا, وقالوا:... آمنا برب هارون وموسي*. استشاط مرنبتاح غيظا وتهدد سحرته بما يسجله القرآن الكريم في الآيات التالية: ﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ ﴾ ( طه:71 ـ73). ومع هذا التهديد والوعيد استعد الفرعون مرنبتاح الأول لمقاتلة موسي وقومه وجميع من آمن معه فنجاهم الله ـ تعالي ـ بعدد من المعجزات الخارقة التي كان من أعظمها عبورهم خليج السويس الذي يسره الله ـ تعالي ـ لهم وأغرق مرنبتاح وجنوده فيه, ثم ينجيه ببدنه ليكون آية لجميع من يأتي من بعده إلي يوم القيامة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾( طه:77 ـ79). ويقول رب العالمين ـ سبحانه وتعالي:- ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ ( يونس:90 ـ92). وفي سنة1977 م أغري دهاقنة الحركة الصهيونية العالمية الإدارة المصرية بإخراج بعض آثار قدماء المصريين لعرضها في متاحف العالم. وقد رأيت بنفسي طوابير المصطفين أمام أحد تلك المتاحف في مدينة لوس أنجيليس من قبل صلاة الفجر حاملين مظلاتهم تحت وابل الأمطار حتى يلحقوا فرصة لمشاهدة تلك الآثار النادرة. ونتيجة لذلك تعرضت بعض المومياءات لرطوبة الجو التي أدت إلي تعفن أجزاء منها, وكان من المومياءات التي تعرضت لشئ من التعفن مومياء الفرعون مرنبتاح الأول فأرسل إلي فرنسا للعلاج في أواخر الثمانينات من القرن العشرين, واستقبل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ووزراؤه وكبار موظفيه تلك المومياء استقبالا ملكيا ثم قدم لمحاكمة هزلية علي التلفاز الفرنسي حاكتها الحركة الصهيونية العالمية, وأتي له بالمحامين والقضاة والمدعين العامين في مسرحية رخيصة لمحاكمة ميت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وبعد هذه المحاكمة الهزلية تم نقل المومياء إلي جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي لعلاج ما أصابها من العفن واستكشاف شئ من أسرارها الكثيرة. وكان من بين الدارسين والمعالجين لتلك المومياء الطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي (Maurice Bucaille). وقد فوجئ دكتور بوكاي وزملاؤه عند فك أربطة المومياء باليد اليسري لهذا الجسد المحنط تندفع فجأة إلي الأمام, وفهم من ذلك أن المحنطين كانوا قد أجبروا تلك اليد علي الانضمام إلي الصدر عنوة, كما ظهرت بقايا ملحية عديدة علي جسد المومياء, وتبين أن عظام المومياء مكسورة في أكثر من موضع بدون تمزق الجلد, واستنتج الدارسون من تلك الملاحظات أن صاحب تلك المومياء لابد وأنه مات غارقا في بحر مالح, وأن تكسر عظامه دون تمزق الجلد مرده إلي قوة ضغط الماء علي جسده بعد غرقه, وأن أمواج البحر ألقت بجثته علي الشاطئ بعد غرقه مباشرة, أو أن فريقا من الغواصين قد استخرجها بعد واقعة الغرق في الحال. وفسرت الوضعية الغريبة ليد المومياء اليسرى بتشنجها لحظة الغرق وهو يدفع الماء بدرعه التي كان يحملها بها, بينما كان يحمل لجام فرسه أو سيفه باليد اليمني, فتيبست اليد اليسرى علي هذا الوضع واستحالت عودتها إلي سيرتها الأولي. وبينما كان الدكتور موريس بوكاي يعد تقريره عن تلك المومياء ظانا أنه توصل إلي كشف حقيقة لم يعرفها أحد قبله جاء إلي علمه أن القرآن الكريم وهو كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة يسجل تلك الواقعة بدقة فائقة كما جاء في الآيات البقرة:(50), الأنفال:(54), والآيات(90 ـ92) من سورة يونس, والآيات(77 ـ79) من سورة طه, وغيرهما. واستغرب الدكتور بوكاي سبق القرآن الكريم بالإشارة إلي نجاة تلك الجثة بعد غرقها, لأن تلك المومياء لم تكتشف إلا في سنة(1898 م), والتحنيط لم يعرف إلا في حدود ذلك التاريخ أو بعده! أعيدت المومياء إلي مصر بعد علاجها وبعد أن طبعت في ذاكرة الدكتور بوكاي فضولا شديدا لدراسة الإشارات الكونية في القرآن الكريم فأمضي عشر سنوات يدرس ذلك, وأذهله التطابق الشديد بين تلك الإشارات القرآنية وحقائق العلم في أعلي مراتبه الحالية, وسجل شهادته تلك في واحد من أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين وسماه: الكتاب والقرآن والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة(LaBible, Le Qur'anella Science) وكانت هذه الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال هي مدخل الدكتور بوكاي لمعرفة حقيقة الإسلام. فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيل خليل عضو جديد
عدد المساهمات : 91 تاريخ التسجيل : 30/07/2011
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 1:28 pm | |
| ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هاَرُونَ وَمُوسَى﴾ [ طه:70]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات النصف الثاني من سورة طه, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وخمس وثلاثون(135) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم تكريما لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ لأن طه اسم من أسمائه الشريفة بدليل توجيه الخطاب إليه مباشرة بعد هذا النداء الكريم, وإن اعتبر نفر من المفسرين هذين الحرفين( طه) من المقطعات الهجائية التي استهلت بها تسع وعشرون(29) سورة من سور القرآن الكريم. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة طه وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في استعراض القرآن الكريم لقصة النبي الكريم موسي بن عمران ومنها موقعة لقائه بسحرة فرعون ذلك الحدث التاريخي الكبير الذي انتهي بسجود السحرة لرب العالمين كما لخصته الآية القرآنية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة: في مقال سابق استعرضنا طرفا من سيرة عبد الله ونبيه موسي بن عمران, وولادته في زمن ذبح كل غلام يولد في بني إسرائيل عقب ولادته مباشرة, ولخصنا كيفية إنجاء الله ـ تعالي ـ له من الذبح, وتربيته في بيت فرعون حتى بلغ أشده( قرابة الثلاثين عاما), وألمحنا إلي الإعجاز التاريخي في استعراض القرآن الكريم لتلك المرحلة من حياة هذا النبي الكريم, ونستكمل ذلك في هذا المقال. في يوم من الأيام دخل الشاب موسي بن عمران مدينة منف فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته( سامري) والآخر من عدوه( مصري), فاستنجده الذي من شيعته علي الذي من عدوه فوكز موسي العدو وكزة أدت إلي وفاته, وحزن موسي لذلك واستغفر ربه لأنه ما كان يقصد قتل المصري, ولكن كان يريد فض الاشتباك بينه وبين السامري, وبات في المدينة خائفا يترقب أن يذكر أحد اسمه مقرونا بتلك الجريمة. وفي اليوم التالي فوجئ موسي بالذي استنصره بالأمس يستنجد به مرة أخري علي رجل آخر من أهل مصر, فغضب موسي عليه قائلا له موبخا:إنك لغوي مبين فتملك الذعر السامري حين أقدم موسي لفك الاشتباك بينه وبين المصري ظانا أن موسي قد تقدم ليضر به هو فصاح السامري قائلا: ﴿ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ﴾ ( القصص:19). كذلك فزع المصري عندما علم أن موسي هو الذي تسبب في موت قتيل الأمس, وولي هاربا وهو يصيح بأن موسي قاتل, وهو الذي قتل المصري بالأمس, وأدرك موسي أن سره قد انكشف, فاختفي عن الأنظار, ولما وصل الأمر إلي فرعون أمر بقتل موسي عقابا له علي جريمته, وسمع بذلك ابن عم فرعون اسمه حزقيل وكان رجلا مؤمنا بالله, وكان فرعون قد ائتمنه علي خزائنه, وعلمنا باسمه من حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه:سباقو الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين, حزقيل مؤمن آل فرعون, وحبيب النجار صاحب يس, وعلي بن أبي طالب. خرج حزقيل علي الفور باحثا عن موسي حتى عثر عليه فأخبره بقرار فرعون ونصحه بالخروج من أرض مصر بالكامل فورا, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾( القصص 20،21) خرج موسي مهاجرا من أرض مصر حتى وصل إلي أرض مدين, وعند بئر الماء في تلك الأرض وجد موسي جماعة من الناس يسقون, ورأي من حولهم فتاتين تمنعان غنمهما من الاختلاط بأغنام الذين يسقون, فتقدم منهما موسي وسألهما لماذا لا تسقيان كما يفعل بقية الناس؟ فأجابتا بأن عليهما الانتظار حتى يسقي الرجال وينصرفوا, وأن أباهما شيخ كبير لا يقدر علي القيام بذلك, فأسرع موسي إلي مساعدتهما وسقي لهما ثم التجأ إلي مكان ظليل متوجها إلي الله ـ تعالي ـ بالدعاء أن يفرج كربه. عادت الفتاتان إلي أبيهما وهو نبي الله شعيب, وذكرتا له ما حدث معهما, فأمر إحداهما بالذهاب إلي الرجل الذي سقي لهما ودعوته إلي بيت أبيها كي يشكره ويكافئه علي مساعدتهما, فأتته تمشي علي استحياء وأبلغته دعوة أبيها له, وقبل موسي الدعوة, وسار أمامها وهي توجهه إلي بيت أبيها حتى بلغاه, فاستقبله الوالد وعرفه بنفسه وأكرم وفادته, وعلي مائدة الطعام قص موسي عليه قصته فهدأ الشيخ من روعه مؤكدا له أن الله ـ تعالي ـ قد أنجاه من القوم الظالمين الذين لا سلطان لهم علي أرض مدين. وفي خلوة مع أبيها اقترحت احدي الابنتين عليه أن يتخذ هذا الغريب القوي الأمين أجيرا عنده يساعده في رعي غنمه, وفي بقية أعماله, فاستساغ الوالد الفكرة لما رأي في موسي, من صلاح وإيمان وحسن خلق, ورأي أن أفضل السبل إلي تحقيق ذلك أن يتخذه زوجا لإحدى ابنتيه, وعرض الأمر عليه مقابل أن يخدمه ثماني حجج أي ثماني سنوات فإن أتمها عشرا كان ذلك كرما منه, وافق موسي علي عرض الشيخ, وتعاهدا علي تنفيذ ما اتفقا عليه.
وبعد تمام السنوات العشر استأذن موسي والد زوجته في العودة بها إلي مصر فأذن له. ارتحل موسي مع زوجه متجهين إلي أرض مصر ولكنهما ضلا الطريق في شبه جزيرة سيناء في ليلة شديدة الظلام وقارسة البرد وغزيرة المطر, وفي غمرة البحث عن الطريق أبصر موسي علي البعد نارا تتأجج, فنصب خيمة لزوجته وترك غنمه حولها, ثم استأذنها في الذهاب إلي النار لعله يأتي منها بقبس يتدفأ هو وأهله به, أو يجد عندها من يرشده إلي الطريق الصحيح أو يستوضح علي نورها طريقه. فلما قصد موسي إلي النار وجدها تضطرم في شجرة خضراء تزداد خضرة كلما اضطرمت بها النيران وهنالك فوجئ موسي بصوت الحق ـ تبارك وتعالي ـ يخاطبه, ويسجل القرآن الكريم ذلك في خطاب يوجهه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول له فيه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى *إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ (طه:9-36). وجاء وصف هذا الموقف كذلك في سورة القصص( الآيات30-35) وانطلاقا من هذا الموقف الفريد تلقي موسي مرتبة النبوة وكلف بتبليغ رسالة الله ـ تعالي ـ إلي فرعون وقومه. دخل موسي وزوجه إلي مصر والتقي بأهله ومنهم أخوه هارون الذي كان قد تلقي الأمر الإلهي بمشاركة موسي في تبليغ فرعون مصر أوامر رب العالمين. ذهب كل من موسي وهارون إلي فرعون وأبلغاه رسالة رب العالمين واستدلا علي نبوتهما بالمعجزات التي أجراها الله ـ تعالي ـ علي أيدي موسي, ولكن فرعون في غطرسته اعتبر تلك المعجزات ضربا من السحر الذي كان شائعا في مجتمعه, ولذلك تحدي كلا من موسي وهارون بسحرته, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾(طه:56-59). ولما جاء الموعد المحدد احتشد الناس ليشهدوا نتيجة هذا التحدي بين فرعون وسحرته من جهة وهارون وموسي من جهة أخري, ويصف القرآن الكريم هذا المشهد بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هاَرُونَ وَمُوسَى ﴾ ( طه:65-70). وهذا الموقف الإيماني الرائع من سحرة فرعون لم تذكره كتب الأولين علي الرغم من التشابه الواضح بين رواية القرآن الكريم وما جاء في تلك الكتب عن قصة موسي وهارون مع فرعون وملئه, مع وضوح الفارق الكبير بين كلام الله ـ تعالي ـ وكلام البشر, ومن هنا يأتي استعراض كتاب الله لتلك القصة ـ بصفة عامة ـ ولموقف سحرة فرعون ـ بصفة خاصة ـ كما لخصتها الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال وجها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله يشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, كما يشهد بالنبوة وبالرسالة لسيدنا محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي تلقي القرآن الكريم وحيا من رب العالمين, ولا يمكن لعاقل أن يتصور لذلك مصدرا غير الله الخالق, وذلك نظرا للبعد الزمني الهائل والمقدر بنحو ألفي سنة بين بعثتي النبيين الكريمين محمد بن عبد الله, وموسي بن عمران ـ عليهما وعلي جميع أنبياء الله السلام ـ وللإرادة الإلهية في جعل خاتم النبيين أميا لا يقرأ ولا يكتب, وجعل بعثته في أمة كانت غالبتيها الساحقة من الأميين, وبذلك لم تكن أمة تدوين, ورابعا ـ وليس أخيرا ـ إيراد من المواقف في هذه القصة ما لم يرد في كتب الأولين, وعرض القصة في أسلوب رائع, وإحاطة بالتفاصيل اللازمة لاستقاء الدروس والعبر في إيجاز لا يقدر عليه إلا رب العالمين. فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آلة وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:00 am | |
| َأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص:7]بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2009-10-31 هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة القصص, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وثمانون(88) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود قصة عبد الله ونبيه موسي بن عمران مع فرعون وقومه بصورة مفصلة فيها ويدور المحور الرئيسي لسورة القصص حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة القصص وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات التاريخية والعلمية, ونركز هنا علي جانب الإعجاز التاريخي في استعراض جزء من سيرة النبي موسي بن عمران في الآية القرآنية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة جاء ذكر نبي الله موسي بن عمران في القرآن الكريم مائة وستا وثلاثين(136) مرة في أربع وثلاثين(34) سورة من سور هذا الكتاب العزيز البالغ عددها مائة وأربع عشرة(114) سورة. وفي الأثر أن كلا من الأخوين هارون وموسي ولد في مصر زمن الفرعون المعروف باسم رمسيس( رعمسيس) الثاني الذي حكم مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة في الفترة الممتدة من1301 ق. م إلي1235 ق. م تقريبا وقد عرف رمسيس الثاني باسم فرعون الاضطهاد لأنه كان جبارا في الأرض ظالما, كافرا بأنعم ربه حتى ادعي الألوهية حيث قال:... أنا ربكم الأعلى ( النازعات:24) وقال مخاطبا شعبه:.. يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري...( القصص:38). اضطهد فرعون مصر رمسيس الثاني كل مؤمن بالله في شعبه الذي قسمه شيعا, وفي ذلك يقول القرآن الكريم إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين.( القصص:4). ويروي الدكتور سليم حسن( جـ6, ص45,44) أن من الذين استضعفهم فرعون واضطهدهم بنو إسرائيل الذين خانوا أباه سيتي الأول( أبو رمسيس الثاني) وتعاونوا مع أعدائه في بلاد الشام, كما خانوا العهد معه وعرضوه لخدعة من اثنين من البدو كلفته فيلقا كاملا من جيشه, وكادت الخدعة تودي بحياته هو في معركة قادش. وكان بنو إسرائيل قد وفدوا إلي مصر زمن القحط الذي ضرب منطقة المشرق العربي( سنة1728 ق. م) بعد ان بيع يوسف بن يعقوب رقيقا لعزيز مصر, ثم أكرمه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعد سلسلة طويلة من الابتلاءات بأن جعله أمينا علي خزائن أرض مصر في زمن احد ملوك الهكسوس, وهم عرب كانوا قد حكموا مصر فترة من الزمن حتى حررها ملوك الأسرة الثامنة عشرة الذين طاردوا الهكسوس إلي بلاد الشام. ولما عاد رمسيس الثاني من معركة قادش بعد توقيع الصلح مع الحيثيين بدأ التنكيل بالإسرائيليين خاصة بعد أن رأي في منامه رؤيا مفزعة فسرت له بأن غلاما يولد في بني إسرائيل يتحقق علي يديه هلاك فرعون مصر وزوال حكمه لأرض مصر. وقد أزعج تفسير الرؤيا هذا الفرعون إزعاجا شديدا وأفزعه علي مستقبل حكمه وملك أبنائه وذريته من بعده. وفي غمرة جنون الخوف والفزع من المستقبل المجهول أمر رمسيس الثاني بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل فور ولادته, وان يترك الإناث من هؤلاء المواليد للقيام بالخدمة في بيوت المصريين. وبتطبيق هذا القانون الجائر قلت الأيدي العاملة في المجالات التي لا يقوي عليها إلا الذكور من مثل استخراج الأحجار من مقالعها, وأعمال البناء والزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال الشاقة, فاشتكي أهل مصر من ذلك النقص في اليد العاملة إلي الفرعون فتفتق ذهنه عن فكرة جهنمية مؤداها ذبح جميع من يولد من غلمان بني إسرائيل عاما وإعفاء مواليد الغلمان من الذبح في العام الذي يليه حتى يكون من المعافين من الذبح طبقة من أصحاب الأيدي العاملة في الأعمال الشاقة, وظل العمل علي هذا المنوال طيلة فترة حكمه التي استمرت حوالي سبعة وستين(67) سنة( من حوالي1301 ق. م إلي1234 ق. م) ولد هارون بن عمران الأخ الأكبر لموسي في عام لم يكن يذبح فيه غلمان بني إسرائيل فنجاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ من الذبح, ثم ولد أخوه موسي بن عمران في سنة كان غلمان بني إسرائيل يذبحون, ولاحظ كل من رأي هذا الوليد المبارك أن الله ـ تعالي ـ قد ألقي عليه محبة منه, فكان كل من رآه من أهله أو من جواسيس الفرعون وقابلاته يقع حب هذا الوليد الجديد في قلبه, فيساعد الأسرة المنكوبة علي إخفائه, ولذلك يمتن ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي عبده موسي بعد أن كبر وآتاه الله النبوة فيقول له: ﴿...وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ ( طه:39). هذه المحبة التي ألقاها الله ـ تعالي ـ علي عبده موسي استقرت في قلوب الناس وجعلتهم يعاونون أمه علي إخفاء رضيعها من زبانية فرعون وجواسيسه الذين كانوا يجوبون حواري بني إسرائيل بحثا عن المواليد الجدد من الغلمان. ولكن مع اشتداد وطأة البحث, وانتشار الجواسيس والقابلات, زاد خوف أم موسي عليه, وفزعت فزعا شديدا من إمكانية انتزاعه من بين أحضانها وذبحه. وفي غمرة خوفها وقلقها وحيرتها وهي تفكر في كيفية حماية وليدها موسي ألهمها الله ـ تعالي ـ أن تضعه في مهده ثم في صندوق يحميه من البلل بالماء, وأن تضع الصندوق في اليم( نهر النيل) الذي كان متاخما لبيتها, بعد أن تربطه بحبل متين يشده إلي البيت.. وكانت تسترجع وليدها إلي البيت لإرضاعه ثم ترده إلي مكانه في نهر النيل مخبأ بين أعشابه ونباتاته, خوفا من مفاجأة جواسيس فرعون لبيتها وانتزاع وليدها من بين أحضانها. وفي يوم من الأيام تمكن تيار الماء في نهر النيل من قطع الحبل الذي يربط صندوق موسي إلي بيت أمه, وتحرك تيار الماء بالصندوق وبداخله الرضيع موسي حتى أوصله إلي شاطئ قصر الفرعون الذي كان قائما علي بحيرة متصلة بالنيل فالتقطه حراس القصر وخدمه, وتم فتح الصندوق في حضرة زوجة الفرعون, وكانت سيدة مؤمنة بالله, وكان اسمها آسية( أو إست نفرت), وقد ضرب الله ـ تعالي ـ بها المثل للإيمان الصادق في محكم كتابه العزيز فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ( التحريم:11) وعند فتح الصندوق وقعت عينا السيدة المؤمنة آسية زوجة فرعون مصر علي الطفل الرضيع موسي بن عمران فرأت في وجهه نورا أوقع محبته في قلبها فتعلقت به بسبب المحبة التي ألقاها الله ـ تعالي ـ عليه, ووصل الخبر إلي الفرعون فجاء غاضبا وأدرك أن الرضيع هو أحد غلمان بني إسرائيل الذي حاول أهله إخفاءه عن أعين الذباحين من جنده وعملائه, وأمر بقتل الغلام علي الفور, ولكن زوجته الصالحة ألحت عليه بالرجاء أن يستبقيه لهما فرحة ومسرة وقرة عين, فاستجاب الفرعون لرجاء زوجته بعد إلحاح طويل منها, وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُواًّ وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ (القصص:7 ـ9). وعندما فوجئت أم موسي باختفاء الصندوق الذي كانت قد خبأت فيه رضيعها موسي فزعت فزعا شديدا, وأمرت أخته بالإسراع في اقتفاء أثره, وجرت أخته علي طول ساحل النيل من بيتها إلى قصر الفرعون ففوجئت بأن الصندوق قد وصل إلى القصر, فطار عقلها من الجزع والخوف علي أخيها كما طار عقل أمها وأصبح خاليا من كل شئ في الدنيا إلا ذكر موسي وكيفية إنجائه من قبضة الفرعون. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ *وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ( القصص:11,10). جاع الطفل موسي وأخذ في البكاء حتى ملأ قصر الفرعون ببكائه فأمرت السيدة آسية بجلب عدد من المرضعات للطفل الباكي, ولكن كلما جاءت إحداهن لترضعه أبي أن يأخذ بثديها, واشتد جوع الطفل وعلا صراخه, والمرضعات يترددن علي القصر دخولا وخروجا دون أن يقبل الرضاعة من أيهن, فتسللت أخت موسي إلى داخل القصر مع المرضعات الداخلات وشاهدت أخاها يبكي ويرفض الرضاعة من آية مرضعة, فتقدمت من السيدة آسية عارضة أن تدلها علي من يمكن أن يقبل هذا الطفل الرضاعة منها فوافقوا فورا علي ذلك, فذهبت وعادت لهم بأمه فأقبل عليها ورضع منها, فدفعوا بالطفل إلي أمه وأجروا لها راتبا أجر إرضاعها له, وعرضت آسية علي أم موسي إمكانية الإقامة في القصر حتى لا تحرم من رؤية موسي, ولكنها اعتذرت بضرورة القيام علي شئون أسرتها, فوافقت آسية علي اصطحاب أم موسي لرضيعها وأغدقت عليها بالعطايا علي ألا تحرمها من رؤية الطفل من وقت إلي آخر. وعادت أم موسي إلي بيتها فرحة برضيعها الذي نجاه الله ـ تعالي ـ من الذبح, وحقق لها أولي البشريين اللتين رأتهما في منامها, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ *فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ( القصص:13,12). ويمن ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي عبده ونبيه موسي بذلك قائلا له: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ ( طه:37 ـ40). وبعد فطام موسي أعادته أمه إلي السيدة المؤمنة آسية زوجة فرعون مصر لينشأ هذا الصغير في قصره, وليتربي تربية أبناء الملوك تحت عطف وحب ورعاية من فرعون وزوجه. وقصة ولادة موسي في زمن ذبح غلمان بني إسرائيل عقب ولادتهم, وإنجاء الله ـ تعالي ـ له من الذبح علي أيدي جند فرعون وأعوانه, وتربية هذا الطفل في بيت عدو الله وعدوه فرعون مصر حتى بلغ أشده, هذه القصة لها ما يشبهها في بعض كتب الأولين مع الفارق الهائل بين كلام الله وكلام البشر. وإذا علمنا أن الفارق الزمني بين كل من النبيين الكريمين محمد بن عبد الله وموسي بن عمران يقدر بحوالي ألفي سنة, وأن الرسول الخاتم قد اختار الله ـ تعالي ـ له أن يكون أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة, وأن يبعث في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين الذين لا يعرفون التدوين أدركنا ومضة الإعجاز التاريخي في عرض القرآن الكريم لقصة ميلاد النبي الكريم موسي بن عمران في روعة من الصياغة, ودقة من التفاصيل, تفتقر اليهما روايات الأولين, وفي إيجاز معجز يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام رب العالمين, كما يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:01 am | |
| ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾[يوسف:4]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة يوسف, وهي سورة مكية, وآياتها مائة واحدي عشرة(111) آية بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لدورانها حول قصة نبي الله يوسف, وهي القصة الوحيدة من قصص الأنبياء التي جاءت كاملة في احدي سور القرآن الكريم. وقد جاء ذكر نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ باسمه صراحة في أربع وعشرين(24) آية من آيات السورة التي تحمل اسمه, كما جاء في آية واحدة في كل من سورتي الأنعام وغافر, وبذلك يكون ذكر هذا النبي الصالح قد جاء في ست وعشرين(26) آية من آيات القرآن الكريم. ويدور المحور الرئيسي لسورة يوسف حول سلسلة الابتلاءات التي عرضه الله ـ تعالي ـ لها تمحيصا لشخصه الكريم حتى يكون في ذلك سلوى لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وسط كل التحديات التي تعرض لها من كفار ومشركي قريش بعد عام الحزن الذي فقد فيه كلا من زوجه الوفية أم المؤمنين السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وعمه أبي طالب, وحتى يري خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ من قصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ أن لنجاح العبد في الابتلاءات التي يتعرض لها مردوده العظيم في الدنيا قبل الآخرة, وأن اعتزاز المرء بإيمانه بالله وانعكاس ذلك علي سلوكه له أكبر الأثر في تمكينه من دعوة الآخرين, والإيمان بأن الحق يعلو ولا يعلي عليه, وغير ذلك من القيم الإسلامية الرفيعة. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة يوسف وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والقصص والدروس المستفادة منها, وغير ذلك من الإشارات العلمية, ونركز هنا علي أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي في استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ وفي الرؤيا التي رآها وهو طفل صغير ثم جعلها ربي حقا, والتي تلخصها الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز العلمي والتاريخي: علي عادة القرآن الكريم تأتي القصة من أجل استخلاص الدروس والعبر منها, لا من قبيل العرض التاريخي المباشر الذي يعني بالأسماء والتواريخ والأماكن فقط, ولكنها تبقي من الناحيتين العلمية والتاريخية بالغة الدقة والإحكام لأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه, فلا يمكن للباطل أن يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
ولقد لخصت سورة يوسف قصة هذا النبي الصالح في سلسلة من المحن والابتلاءات التي يمكن إيجازها فيما يلي: 1 ـ كانت المحنة الأولي التي تعرض لها نبي الله يوسف هي استئثاره بحب أبيه مما تسبب في حقد إخوته عليه, والدرس المستفاد من تلك المحنة هو ضرورة عدم تفرقة الآباء بين الأبناء, حتى وإن كان أحدهم أقرب إلي القلب, فلا يجوز إظهار ذلك أمام الآخرين حتى لا يوقع الآباء الفتنة بين أبنائهم. 2 ـ وكانت المحنة الثانية هي الرؤيا المنامية التي رآها يوسف في طفولته والتي لخصها القرآن الكريم في مطلع السورة, يقول ربنا ـ تبارك وتعالي:ـ ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ ( يوسف:4). والدرس المستفاد من ذلك هو ضرورة التصديق برؤى الصالحين, والحرص علي عدم إفشائها, وأخذ الحذر من التباهي بالنعم والإعلان عنها خشية الغيرة والحسد حتى بين الإخوة, مع الإيمان الكامل بأن قدر الله نافذ لا محالة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم علي لسان يعقوب ـ عليه السلام ـ بعد أن سمع رؤيا ابنه يوسف: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ ( يوسف:5). 3 ـ وكانت المحنة الثالثة هي كيد إخوة يوسف له الذي يلخصه القرآن الكريم علي لسان أحدهم بقوله: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ *قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ( يوسف:10,9). والدرس المستفاد من هذا الموقف هو أن للإخوة حقوقا كثيرة, وعليه فإنه لا يجوز للإنسان أن يسمح للشيطان بإغوائه كي يتجاوزها, لأن الشر لا ينتج إلا شرا, وأن الخير لا ينتج إلا خيرا, فلا يجوز لمسلم أن يخدع أخاه المسلم, أو أن يخدع نفسه باختلاق المبررات للوقوع في الخطأ, والظلم مهما زينه الشيطان في ناظريه. 4 ـ وكانت المحنة الرابعة إلقاء الطفل الصغير يوسف في غيابت الجب( أي في قاع بئر الماء) وما فيه من ظلمة ووحدة ووحشة, ولكن سرعان ما جاء الفرج من عند الله ـ تعالي ـ فجاءت قافلة وأرسلت فردا منهم فأدلي بدلوه ليستسقي من الماء, فتعلق الطفل الصغير يوسف بالدلو فشعر صاحب الدلو بثقله وظن أنه قد امتلأ ماء, فلما نزع الدلو فإذا بغلام صغير شديد الوسامة قد تعلق بالدلو فاستبشر به كما استبشر به بقية أفراد القافلة, ورحلوا به إلي مصر وباعوه بثمن بخس إلي رئيس وزراء مصر. باعوه رقيقا وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم كما وصفه المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ, والدرس المستفاد من هذه المحنة هو اليقين بلطف الله ورحمته في كل شدة يمر بها المسلم, انطلاقا من الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ هو رب هذا الكون ومليكه, والدعوة إلي التحلي بالصبر علي المكاره في جميع الأزمات التي يمر بها الإنسان, لأن الصبر من أعظم القيم الإسلامية, ومن أنجع الوسائل التربوية للنفس الإنسانية, والعاقبة دوما للصابرين رضا بقضاء الله وقدره, والصادقين يقينا بعدله المطلق ورحمته بعباده. 5 ـ وكانت المحنة الخامسة هي وقوع امرأة العزيز في حب يوسف, والكيد له بمكر وخبث شديدين هي وصاحباتها بكل وسائل الإغراء التي كن يمتلكنها إلي أن نجاه الله ـ تعالي ـ من كيدهن بوضعه في السجن ظلما بقرار من عزيز مصر حتى يخلص من عار امرأته, ويكف ألسنة الناس عنها وعنه. والدروس المستفادة من هذه المحنة هي الدعوة إلي العفة والحرص علي صون محارم الآخرين, والوفاء لأصحاب الفضل, ومراقبة الله في السر والعلن, والتحذير من خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية. 6 ـ وكانت المحنة السادسة هي محنة التمكين في الأرض بعد أن فسر يوسف رؤيا ملك مصر وكان هذا الملك من العماليق الهكسوس العرب, وكان ذلك في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد, وقد فسر يوسف رؤيا الملك علي النحو التالي كما يرويه القرآن الكريم:﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾( يوسف:47 ـ49). 7 ـ أما المحنة السابعة فكانت محنة اللقاء بإخوته وأبويه بعد فراق طال لعشرات السنين, فبعد مرور السنوات السبع الخصبة التي أعد يوسف ـ عليه السلام ـ عدته فيها بخزن فائض محاصيل الغلال في سنابلها كما علمه الله, جاءت السنوات السبع المجدبة ففتح مخازن الدولة وباع لأهل مصر ما يكفيهم من الغلال, وعندما علم أهل فلسطين بما في مصر من مخزون الغلال أرسلوا وفودهم لجلب شيء منها, وكان من بين تلك الوفود وفد أبناء نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ وعندما رآهم يوسف عرفهم وهم لم يعرفوه, ولم يجد بينهم أخاه الأصغر بنيامين, فأخذ في استدراجهم حتى علم منهم أن أباهم لم يسمح بمفارقة بنيامين له. ولما جهزهم يوسف بالغلال التي اشتروها, أمر برد بضاعتهم التي دفعوها ثمنا للغلال في أوعيتهم حتى يعودوا بها إليه لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم, ثم قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم أبيع لكم الغلال مرة أخري وأوفي لكم الكيل, فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي, فقالوا سنراود عنه أباه. وعندما عاد إخوة يوسف إلي بلدهم فتحوا أمتعتهم لاستخراج ما شروه من غلال فوجدوا الثمن الذي دفعوه مدسوسا فيها, فشجعهم ذلك علي طلب صحبة أخيهم بنيامين لهم في رحلتهم الثانية إلي مصر علي الرغم من معارضة أبيهم لذلك, ولكن نظرا لشدة القحط, ولإلحاح الأبناء لان يعقوب ـ عليه السلام ـ لطلب أبنائه اصطحابهم لأخيهم بنيامين في رحلتهم الثانية إلي أرض مصر, واشترط عليهم أن يؤتوه موثقا من الله أن يعودوا به سالما إلا أن يحاط بهم أي أن يغلبوا علي أمرهم). عاد إخوة يوسف إلي أرض مصر ومعهم أخوهم بنيامين فأكرم يوسف وفادتهم وأعطاهم طلبهم من الغلال, وأمر برد أثمانها إليهم مدسوسة بين الغلال وأن يوضع صواع( كأس) الملك في رحل بنيامين كي يستبقيه عنده بالادعاء عليه بأنه أخذ الصواع. وبعد قليل من ارتحالهم نودي عليهم ليعودوا بدعوي أنهم سرقوا صواع الملك, فأظهروا البراءة من ذلك, وقالوا: من وجد صواع الملك في رحله يؤخذ عبدا للملك. وبالتفتيش وجد الصواع في رحل بنيامين فاحتجزه يوسف, وبادر الإخوة بالرجاء بأن يأخذ أحدهم مكانه فأبي يوسف ذلك. رفض الأخ الأكبر العودة مع إخوته, وأشار عليهم بإخبار أبيهم عند عودتهم إليه بما كان من أمر بنيامين, فلم يقتنع الأب بروايتهم, وأحاله إلي أمر دبروه بليل كما كادوا لأخيهم يوسف من قبل, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ ( يوسف:84). لام أبناء يعقوب أباهم علي ذلك, فأمرهم بالعودة إلي مصر ليبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين, وألا ييأسوا من رحمة الله, فعادوا إلي مصر في رحلة ثالثة انصياعا لأمر أبيهم فوجدوا أخاهم بنيامين معززا مكرما في صحبة يوسف فعرفوا أنه أخوهم وأقرهم يوسف علي ذلك وأمرهم بأمر يلخصه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي لسانه فقال: ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوَهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ ( يوسف:94,93). شد يعقوب ـ عليه السلام ـ وآله أجمعون رحالهم إلي أرض مصر, فلما جاءوها دخلوا علي يوسف فآوي إليه أبويه, فسجد له كل من أبيه وأمه وإخوانه الأحد عشر سجود الاحترام والتوقير لا سجود العبادة والخضوع ونطق بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿...وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقاًّ...﴾ ( يوسف:100). والدروس المستفادة من هذه المحنة السابعة في حياة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ تتلخص في الدعوة إلي العفو عن المسيء, واليقين بأن الله ـ تعالي ـ قد تكفل بنصرة المظلوم ولو بعد حين, والتأكيد علي ضرورة الاعتبار بقصص القرآن كلها, وبآيات الله في السماوات والأرض, وعلي أن أكثر الناس يقعون في حبائل الشيطان الذي يغويهم بالشرك بالله أو الكفر به, والتحذير من الوقوع في ذلك لأنه يستوجب نزول عقاب الله في الدنيا قبل الآخرة, والتأكيد كذلك علي أن البشرية تأرجحت عبر تاريخها الطويل بين التوحيد والشرك, وبين الإيمان والكفر, وبين الاستقامة علي منهج الله والخروج عليه( سورة يوسف الآيات:103 ـ107). ومن الدروس المستفادة كذلك من هذه المحنة السابعة في قصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ ضرورة القيام بالدعوة إلي دين الله القائم علي التوحيد الخالص لجلاله, ونفي الشرك نفيا كاملا( سورة يوسف:108), وضرورة التسليم بوحدة رسالة السماء وبالأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا, وبنبوة الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ والاعتبار بعقاب المكذبين لرسل الله في كل زمان ومكان( سورة يوسف:110.109). وورود هذه القصة في القرآن الكريم بهذا التفصيل هو وجه من أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي في كتاب الله للمبررات التالية: أولا: لأن نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ عاش في مصر في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد, وأن خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ بعث في مطلع القرن السابع الميلادي, أي أن الفترة الزمنية بينهما كانت أكثر من عشرين قرنا, ولم يكن العرب أهل علم وتدوين حتي يتذكروا هذه التفاصيل الدقيقة, ولا يمكن الاحتجاج بما جاء في كتب الأولين. ثانيا: من ومضات الإعجاز التاريخي والعلمي في استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ ما يمكن إيجازه في النقاط التالية: 1 ـ استعمال لقب الملك لحاكم مصر خلال كل السورة بدلا من لقب الفرعون, وذلك لأن دخول يوسف عليه السلام ـ ومن بعده أسرته إلي أرض مصر كان في عهد ملوك الهكسوس الرعاة الذين لم يستخدموا لقب الفرعون, بل استخدموا لقب الملك. 2 ـ الإشارة إلي إخوة يوسف ووالديه بتعبير: أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يتوافق تماما مع ما أثبته علم الفلك من أن عدد كواكب المجموعة الشمسية هو أحد عشر كوكبا, وأن الشمس لا يمكنها جذب شيء إليها بعد الكوكب الحادي عشر الذي يقع علي بعد(90) وحدة فلكية عن الشمس الذي تم اكتشافه في2003/11/14 م وتم الإعلان عنه في2004/3/15 م وعرف باسم الكوكب سيدنا(Sedna). 3 ـ الإشارة إلي أن أفضل وسيلة لحفظ الحبوب التي تنبت في سنابل من مثل القمح, والشعير, والذرة, والشوفان, وغيرها هو حفظها في سنابلها بدلا من حفظها مفروطة في صوامع الغلال حيث تفسد وهو ما أثبته العلم أخيرا. من هنا كان في استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ من الشهادات الناطقة لكل ذي بصيرة بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام.. وصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:02 am | |
| ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[ الأنبياء:83]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل الثلث الأخير من سورة الأنبياء, وهي سورة مكية, وآياتها اثنتا عشرة ومائة(112) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها سير عدد من أنبياء الله. ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الأنبياء, وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات الكونية, ونركز هنا علي جانب الإعجاز التاريخي في ذكر قصة سيدنا أيوب ـ عليه السلام ـ والذي تشير الآثار المتوافرة لنا اليوم إلي وفاته قبل بعثة المصطفي صلي الله عليه وسلم بأكثر من ألفي سنة.
من أوجه الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة أولا: ذكر أيوب عليه السلام في القرآن الكريم: جاء ذكر نبي الله وعبده أيوب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم أربع مرات في أربع من سور القرآن الكريم علي النحو التالي: 1. ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ [ النساء:163]. 2. ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ﴾[ الأنعام:83 ـ84]. 3. ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾[ الأنبياء:83 ـ84]. 4. ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾[ ص:41 ـ44]. وقوله ـ تعالي: اركض برجلك أي: اضرب الأرض برجلك, وبامتثاله ما أمره الله به نبعت بقدرة الله ـ تعالي ـ عين من الماء البارد, وأمر أن يغتسل فيها, وأن يشرب منها فأذهب الله ـ سبحانه وتعالي ـ عنه كل ما كان بجسده من الأدواء الظاهرة والباطنة, وعاد سليما معافي كما كان قبل الابتلاء. ثم وهبه الله ـ تعالي ـ أهله وماله مضاعفين ـ وكانا قد سلبا منه ـ وذلك لقوله ـ تعالي: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ . أي: وجمعنا شمله بأهله الذين كانوا قد تفرقوا عنه أثناء ابتلائه, وأيام محنته, أو الذين كانوا قد ماتوا فعوضه الله ـ سبحانه وتعالي ـ عنهم وزاد عليهم مثلهم, وفعل ربنا ـ تبارك وتعالي ـ ذلك رحمة منا بعبدنا أيوب جزاء صبره علي البلاء واحتسابه ذلك في سبيل الله, وعظة لأصحاب العقول السوية ليدركوا أن بعد العسر اليسر, وأن بعد الشدة الفرج جزاء علي صبر الصابرين واحتساب المحتسبين, وكان أيوب قد حلف أن يضرب زوجه أو أحدا من أهله عددا من الضربات علي خطأ كان قد ارتكبه, فحلل الله ـ تعالي ــ له يمينه بأن يأخذ حزمة من القش, فيها العدد الذي أقسم أن يضرب به, فيضرب به ضربة واحدة, وفاء بيمينه دون أن يصاب المضروب بألم يذكر. وقد من الله ـ تعالي ـ علي عبده أيوب بهذه النعم جزاء صبره علي البلاء, وتذكرة لكل من ابتلي في جسده أو ماله أو ولده كي يصبر ويحتسب لأن الصبر من منازل المؤمنين بالله المتقين لجلاله كما أخبر بذلك المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم.
ثانيا: ذكر أيوب ـ عليه السلام ـ في السنة النبوية المطهرة: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد, إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له, كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين, قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له, فقال أيوب: لا أدري ما تقول؟ غير أن الله ـ عز وجل ـ يعلم أني كنت أمر علي الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلي بيتي فأكفر عنهما, كراهة أن يذكر الله إلا في حق; وقال صلي الله عليه وسلم: وكان أيوب يخرج في حاجته, فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتي يرجع. فلما كان ذات يوم أبطأت امرأته عليه, فأوحي الله إلي أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاستبطأته امرأته فتلقته تنظر,وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء, وهو علي أحسن ما كان, فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك! هل رأيت نبي الله هذا المبتلي؟ فو الله القدير علي ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا, قال: فإني أنا هو. وقل صلي الله عليه وسلم عن نبي الله أيوب: وكان له أندران, أندر للقمح وأندر للشعير, فبعث الله سحابتين, فلما كانت إحداهما علي أندر القمح أفرغت عليه الذهب حتي فاض, وأفرغت الأخري في أندر الشعير الورق( أي الفضة) حتي فاض( السلسلة الصحيحة للألباني ـ ج17). وقصة نبي الله أيوب ـ عليه السلام ـ هي من نماذج الصبر علي الابتلاء الذي يقدره الله ـ تعالي ـ علي عبد من عباده فيصبر ويحتسب, ويكون العطاء الوافر في الدنيا وفي الآخرة هو جزاء الصبر والاحتساب. وقد طال صبر أيوب علي الابتلاء بغير تضرر ولا ضجر حتي لأصبح يضرب بصبره المثل, وأصبحت قصة صبر أيوب علي كل لسان, إلا أن القصة قد شابها حتي تم تشويهها بالكامل, وأصبحت ضربا من القصص الشعبي, من الإسرائيليات ما شابها, والحق من هذه القصة هو ما جاء عنها في كتاب الله ـ تعالي ـ وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم, كما عرضناه في الآيات القرآنية الكريمة التي تم الاستشهاد بها أعلاه, وفي الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه آنفا. وخلاصة ذلك أن أيوب ـ عليه السلام ـ كان عبدا من عباد الله الصالحين, وقد ابتلاه الله ـ تعالي ـ في عافيته وولده وماله فصبر صبرا جميلا, وبقي واثقا في ربه, راضيا بقضائه, محتسبا لابتلائه, وكان الشيطان يوسوس لزوجته ولعدد من خلصائه القلائل الذين بقوا علي وفائهم له بأن الله ـ تعالي ـ لو كان راضيا عن عبده أيوب ما ابتلاه هذا الابتلاء الذي طال لقرابة العشرين عاما, وكان بعض هؤلاء الخلصاء ي سرون إلي أيوب بذلك فتؤذيه أقوالهم في نفسه أشد ما يؤذيه المرض وغيره من صور الابتلاء لأنه كان يعلم أن ذلك من وساوس الشيطان إلي البقية الباقية من خلصائه حتي ينصرفوا عنه.
ولما تكاثرت أحاديث خلصائه عليه توجه إلي ربه بالشكوي مما يلقي من إيذاء الشيطان, ومن نفثه في آذان من بقي حوله من أهله وأصدقائه فقال:[... أني مسني الشيطان بنصب وعذاب] فاستجاب الله دعوته, وأدركه برحمته, فأنهي ابتلاءه, ورد عليه عافيته وأهله وماله. وفي ذلك تأكيد علي رحمة الله وفضله علي عباده الصالحين الذين يعرضهم لشيء من الابتلاء فيصبرون ويحتسبون رضا بقضاء الله وقدره, ويقينا بأنه الخير كل الخير, وذلك انطلاقا من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل وقال: يبتلي الرجل علي حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه( صحيح الجامع/992, السلسلة الصحيحة للألباني/ ح145,144,143). ولذلك عقب القرآن الكريم علي قصة نبي الله أيوب بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:[... إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب]. وذلك الإنعام من الله ـ تعالي ـ علي عبده ونبيه أيوب كان جزاء وافرا علي صبره علي البلاء الذي لم يقنطه من رحمة ربه, ولم يوقفه عن حسن الالتجاء إلي الله ليكون في ذلك درسا لغيره من عباد الله الصالحين, وعبرة وعظة للمعتبرين.
ثالثا: ومضة الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة: يذكر كل من علماء التفسير وتاريخ الأديان أن أيوب ـ عليه السلام ـ كان من ذرية إسحاق بن إبراهيم ـ عليهما من الله السلام ـ وأنه كان عبدا صالحا من الله ـ تعالي ـ عليه بالعافية والأهل والمال, ثم ابتلاه بسلب ذلك كله منه, وظل محتسبا وصابرا ثمانية عشر عاما حتي رد الله ـ تعالي ـ إليه كل من كان قد سلب منه في فترة الابتلاء والاختبار, وعاد أصح عافية, وأغني بالأهل والمال مما كان عليه, وبذلك جعله ربنا ـ تبارك وتعالي ـ مثلا للصابرين المحتسبين, ودرسا لغيره من المعتبرين, وذلك لأن الابتلاء هو من سنن الحياة الدنيا, والصبر علي الابتلاء هو من شيم أصحاب الدعوات من عباد الله الصالحين عبر التاريخ, وسيظل كذلك حتي قيام الساعة والله ـ تعالي ـ قد جعل النصر مع الصبر, وجعل عاقبة الصابرين الفوز المبين في الدنيا قبل الآخرة, وما عند الله خير وأبقي, وبذلك الفهم يهون الابتلاء ـ مهما عظم ـ علي كل قلب عامر بالإيمان بالله, مؤمن بقضائه وقدره, موقن بأنه الخير كل الخير, وأن عاقبته الخير, وإن بدا لأعين الناس غير ذلك, وهذا هو الدرس المستفاد من قصة نبي الله أيوب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم.
ويذكر علماء كل من التفسير وتاريخ الأديان أن نبي الله أيوب ـ عليه السلام ـ عاش في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد( في حدود1600 ـ1500 ق.م), وأن خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ بعث في أوائل القرن السابع الميلادي, وعلي ذلك فالفارق الزمني بين هذين النبيين الكريمين يفوق الألفي عام, وأن خاتم النبيين صلي الله عليه وسلم كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة حتي لا يتهمه أحد بأنه نقل القصص القرآني عن كتب الأولين, وهو صلي الله عليه وسلم لم يزر أرض حوران التي يقال إنها كانت بلاد أيوب ـ عليه السلام ـ ومن هنا فإن الإشارة إلي قصة هذا النبي في القرآن الكريم, هي من المعجزات التاريخية في كتاب الله, وإن جاءت في الأصل مواساة لرسول الله صلي الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه في وقت ابتلائهم بمظالم مشركي وكفار مكة, ومواساة لكل داعية إلي دين الله يتعرض لظلم الطغاة المتجبرين من الحكام الظالمين في كل زمان ومكان إلي يوم الدين, وذلك لأنه لم يكن لأحد من أهل الجزيرة العربية إلمام بقصة نبي الله أيوب في زمن الوحي. وتأتي القصة ـ علي عادة القرآن الكريم ـ بالدروس والعبر المستفادة منها, لا من قبيل السرد التاريخي المجرد, لأن القرآن الكريم هو كتاب هداية ـ وليس كتاب تاريخ, ولكن بما أنه كلام رب العالمين في صفائه الرباني فإن كل حرف, وكلمة, وآية, وسورة منه تأتي بالحق المبين في أي مجال تتعرض له, علي تعدد مجالاته وتشعبها. القصة ـ كغيرها من قصص القرآن الكريم ـ تبرز كوجه من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله يشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), وحفظه علي مدي أربعة عشر قرنا ويزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:03 am | |
| حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم الثلث الأول من سورة "هود"، وهي سورة مكية، وآياتها مائة وثلاث وعشرون (123) بعد البسلمة، وقد سميت باسم نبي الله هود - عليه السلام - ويدور المحور الرئيس لها حول قضية العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة "هود"، وما جاء فيها من ركائز العقيدة، ومن قصص عدد من أنبياء الله، ومن الإشارات الكونية، ونركز هنا على ومضتي الإعجاز العلمي والإنبائي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.من أوجه الإعجاز العلمي والإنبائي في الآية الكريمة: أولاً: من أوجه الإعجاز العلمي: في شرح قول ربنا - تبارك وتعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا...﴾ قال علماء التفسير: أي حين صدر أمرنا بنزول العذاب بكفار قوم نوح، ﴿ ... وَفَارَ التَّنُّورُ ...﴾ أي: نبع الماء منه على هيئة البخار وارتفع بشدة؛ كما تفور القدر عند غليانها، وكان ذلك علامة لنبي الله نوح - عليه السلام - على بدء وقوع الطوفان الذي وعده به الله - سبحانه وتعالى - إغراقاً للكفار العاصين من قومه، الذين جحدوا دعوته، وتطاولوا عليه، وسخروا منه. وقيل في لفظة (التنور) أنه هو الكانون أو تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وقيل هو وجه الأرض، وأعلاها، وأشرفها، واللفظة عربية، وإن قيل بأنها معربة. ومعنى الآية الكريمة: حتى إذا جاء وقت أمرنا بإهلاك الكافرين من قوم نوح، وفار التنور دافعاً بخار الماء بقوة، قلنا لنوح احمل معك في السفينة زوجين من كل نوع من أنواع الأحياء المتاحة لك ذكراً وأنثى، واحمل فيها كلاً من أهل بيتك إلا من سبق عليه الحكم بالإغراق، وكل من آمن من قومك، ولم يكونوا إلا قلة قليلة. وواضح الأمر أن المقصود بتعبير (التنور) هنا هو البركان الذي خرج منه بخار الماء بكميات كبيرة وارتفع في نطاق المناخ من الغلاف الغازي للأرض، وقد هيأ الخالق - سبحانه وتعالى - فيه طبقة باردة فتكثف فيها ليعود إلى الأرض سيولاً جارفة في بحر متلاطم الأمواج أغرق كفار قوم نوح جميعاً وارتفعت فيه سفينة نوح حتى رست على جبل الجودي(قرابة ألفين متر فوق مستوى سطح البحر). ومن الثابت علمياً أن كل ماء الأرض المقدر بحوالي (1400) مليون كيلومتر مكعب قد أخرجه ربنا تبارك وتعالى من داخل الأرض عن طريق ثورة البراكين، ولذلك قال وقوله الحق: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 30،31].ولذلك قال – تعالى - أيضاً بعد أن تم إغراق كفار قوم نوح: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44]. ونسبة الماء إلى الأرض هنا من المعجزات العلمية في القرآن الكريم لأن هذه الحقيقة لم تعرف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين؛ ومن هنا تأتي ومضة الإعجاز العلمي في الربط بين ثورة البركان (التنور) وإغراق أرض قوم نوح بطوفان الماء، خاصة وأنه ثبت علمياً أن أكثر من (70%) من مكونات الغازات والأبخرة المتصاعدة من فوهات بعض البراكين هو بخار الماء التي سرعان ما تتكثف في نطاق المناخ ويعود إلى الأرض مطراً. وتشير الآيات القرآنية الكريمة إلى اشتراك عيون الأرض المتفجرة في إحداث طوفان نوح وذلك بقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 9-17]. وكثيراً ما تصاحب الثورات البركانية بشيء من الهزات الأرضية الشديدة التي تحرك الماء المجتمع فوق سطح الأرض في تيارات بحرية عنيفة هي التي رفعت سفينة نوح إلى قمة جبل الجودي على ارتفاع سبعة آلاف قدم (حوالي ألفي متر) فوق مستوى سطح البحر ولذلك قال تعالى: ﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي ﴾ [هود: 41-43]. وربما لعبت هذه الهزات الأرضية دوراً في تفجير عيون الأرض بالماء المتدفق من مخزونه في كل من تربة الأرض وصخورها ليشارك هطول الأمطار في إغراق الخاطئين المجرمين من قوم نوح. وهذا يؤكد حقيقة أن طوفان نوح كان إغراقاً للكافرين من قومه بالماء العذب، وعلى الرغم من ذلك يأتي إثنان من علماء فيزياء الأرض وهما الأمريكيان وليام ريان، وزميله والتر بتمان (William Ryan & Walter Pitman) لينشرا كتاباً في سنة 1998م بعنوان "طوفان نوح: الاكتشافات العلمية الجديدة عن الحدث الذي غير مجرى التاريخ".New Scientific William Ryan & Walter Pitman (1998): Noahs Flood: Discoveries About the Event that Changed History , Simon Schuster, New York, ny10020, pp. 1-319. وفي هذا الكتاب يزعم الكاتبان بأن الطوفان كان بماء البحر فوق بحيرة من الماء العذب، وأنه كان حدثاً طبيعياً لا علاقة له بما جاء من أخبار قوم نوح في العهد القديم، ومن ثم فقد أنكرا الواقعة إنكاراً تاماً. ويذكر هذان الكاتبان أن هذا الطغيان البحري الذي أشارا إليه كان قد وقع قبل (7600) سنة حين أدى ارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات إلى اندفاع هذا الماء المالح من البحر الأبيض المتوسط عبر وادي البوسفور ليدمر كل شيء مر به، وليؤدي إلى عدد من الهجرات البشرية الكبيرة. ولكن مما ينفي مزاعم هذين الكاتبين اكتشاف بقايا سفينة نوح - عليه السلام - مطمورة وسط رسوبيات للماء العذب فوق قمة "جبل الجودي" في الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا، وإثبات امتداد هذه الرسوبيات من جنوب شرق تركيا إلى رأس الخليج العربي، مروراً بما بين النهرين دجلة والفرات. وتؤكد هذه الكشوف أن الطوفان كان بالماء العذب الذي هطلت به الأمطار الشديدة، وتفجرت عنه عيون الأرض كما جاء بالقرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة، وأن الحدث وقع عقاباً لقوم نوح في هذه المنطقة فقط، ولم يشمل كل الأرض، ولم يقض على جميع صور الحياة الأرضية كما جاء في العهد القديم (سفر التكوين: 6-9).ثانياً: من أوجه الإعجاز الإنبائي: على الرغم من ضخامة حدث "طوفان نوح"، وعلى ضرورة بقائه عالقاً في الأذهان، ولو من قبيل التراث الشعبي الذي يحمله الناس شفاها من الأجداد إلى الأحفاد، ومن الآباء إلى الأبناء، إلا أن أهل الأرض جميعاً ومنهم العرب في زمن الجاهلية كانوا قد فقدوا الصلة تماماً بوحي السماء، وشاع بينهم العديد من صور الكفر والشرك والضلال. من هنا يأتي ذكر نبي الله نوح - عليه السلام - في ثلاثة وأربعين موضعاً من كتاب الله، كما تأتي تفاصيل قصته مع قومه حتى تم القضاء عليهم بالطوفان في عشرات من الآيات التي جاءت في ثمان وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، وتأتي تسمية إحدى سور هذا الكتاب العزيز باسم نبي الله نوح - عليه السلام - وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب سورة المصحف الشريف، يأتي ذلك كله وجهاً من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله، ولذلك فإن الله – تعالى- قال تعالى يوجه الخطاب إلى خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - قائلاً له: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49]. ولا يقلل من إعجاز ذلك ورود شيء عن قصة نبي الله نوح - عليه السلام - في سفر التكوين من العهد القديم (6-9) لأن الرواية هنا جاءت مشوهة مبتورة، مليئة بالأخطاء في حق الله -تعالى- ، كما جاءت مليئة بالأخطاء العلمية والتاريخية المجافية للمنطق مجافاة كاملة، لأن فيها إشارة إلى أن الله – تعالى- توعد الأرض ومن عليها بالدمار وهذا لم يحدث، وأن نوحاً عليه السلام كان عمره ستمائة سنة حين وقع الطوفان، والقرآن الكريم يقرر أنه عاش بين قومه تسعمائة وخمسين سنة ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 14-15]. كذلك جاء في العهد القديم أن أبعاد السفينة كان 450 × 75 × 45 قدماً، وبقايا السفينة التي عثر عليها على جبل الجودي توحي بأنها كانت أصغر من ذلك بكثير. وتذكر رواية العهد القديم أن نوحاً - عليه السلام - حمل معه على السفينة أزواجاً من كل أنواع الحياة البرية والداجنة، ومن جميع كائنات الأرض، وهذا أمر مستحيل. كذلك تشير رواية العهد القديم إلى أن الطوفان استمر لمائة خمسين يوماً غامراً جميع الأرض بما في ذلك كل قمم الجبال التي تغطت بمياه الطوفان بسمك يزيد على عشرين قدماً، وهذه استحالة علمية. وأشارت رواية العهد القديم إلى أن سفينة نوح استقرت على جبل أرارات (أراراط أو أغرى داج) وقد اكتشفت بقايا السفينة على "جبل الجودي" الذي يقع على بعد (250) ميلاً إلى الجنوب من جبل "أرارات"، في جنوب شرقي تركيا بالقرب من حدودها مع كل من العراق وسوريا إلى الشمال من مدينة الموصل. ومن المعروف أن جبل "أرارات" يوجد في أقصى الشمال الشرقي من تركيا على حدود أرمينيا، وهو كتلة بركانية بها أعلى قمتين في تركيا ترتفع إحداهما إلى (5185) متراً فوق مستوى سطح البحر بينما ترتفع الأخرى إلى 3093 متراً. ففي منتصف شهر مايو من سنة 1948م اكتشف أحد رعاة الغنم الأتراك واسمه رشيد سرحان (Reshit Sarihan) بقايا من أخشاب سفينة نوح - عليه السلام - في قمة "جبل الجودي" (Mount Judi or Cudi Dagh) وعلى إثر هذا الاكتشاف تتابعت دراسات الموقع إلى وقتنا الراهن، وتم إصدار العديد من النشرات عنه من أمثال أعمال كل من مارتن روى (Martin Wroe, 1994)، تشارلين ويلليس (Charles Willis, 1980)، وجون وارويك مونتجومري (John Warwick Montegomry) في السبعينيات من القرن العشرين، والتي أثبتت جميعها صدق الاكتشاف وقد أعطت البقايا الخشبية للسفينة المكتشفة عمراً مطلقاً في حدود (4500) سنة قبل الميلاد وذلك باستخدام طريقة الكربون المشع كما أعلن مارتن روى بجريدة الأوبزرفر اللندنية بتاريخ (16/1/1994م). وعلى الرغم من ذلك، ومن إخبار القرآن الكريم برسو السفينة على "جبل الجودي"، ومن وجود بعض الكتابات التاريخية القديمة التي تم اكتشافها مؤخراً والتي تسجل ذلك من مثل كتابات كل من "بيراسوس" (Berasus) وهو من كهان الحضارة البابلية، و"أبيدينوس" (Abydenus) وهو من تلامذة سقراط، ومن رموز الحضارة اليونانية القديمة، فقد ظلت محاولات الغربيين مستميتة في إثبات رسو سفينة نوح على جبل أرارات (اراراط أو أغرى داج) حتى أعلنت مجموعة من العلماء الروس بتاريخ (25/3/2005م) في مؤتمر صحفي نقلته وكالة إنترفاكس للأنباء (The Interfax News Agency) أنه لا توجد أية آثار لسفينة نوح على "جبل أرارات"، وأن جميع العينات التي درست تؤكد ذلك، كما أكدته دراسات فادين تشيرنوبورف (Vadin Chernoborv) الذي أوفد مجموعة العلماء هذه للقيام بتلك الدراسة. من ذلك يتضح جانب الإعجاز الإنبائي في استعراض القرآن الكريم لقصة نبي الله نوح - عليه السلام - مع قومه، والتي لخصتها الآية التي اتخذناها عنواناً لهذا المقال. فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام - صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:04 am | |
| ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾[البقرة:34]هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بداية العشر الثاني من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها مئتان وست وثمانون(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, ويدور محورها الرئيسي حول قضية التشريع الإسلامي. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة, وما جاء فيها من تشريعات, وعقائد, وأخبار, وقصص, وقواعد أخلاقية وسلوكية, وإشارات كونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز الإنبائي في الأخبار عن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ, وهو حدث لم يشهده أي من بني آدم, ولم يكن لأهل الجزيرة العربية إلمام به في زمن الوحي.من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة: يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾[البقرة:34]. والأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ هو تأكيد تكريم الله ـ تعالي ـ للإنسان في شخص أبينا آدم ـ عليه السلام ـ الذي كان يحمل جميع ذريته في صلبه لحظة خلقه. والسر في هذا التكريم هو ذلك العلم الوهبي الذي من الله ـ تعالي ـ به علي أبينا آدم, وتلك الإرادة الحرة التي وهبها إياه, ومقام النبوة الذي حمله أمانة التبليغ عن الله, كما حمله لسلسلة طويلة من الأنبياء من ذرية آدم, ولعدد من الصالحين من تلك الذرية التي كرمها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وفضلها علي كثير ممن خلق تفضيلا, وذلك بقوله العزيز:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء:70]. ولقد سجد الملائكة أجمعون امتثالا لأمر الله ـ تعالي ـ, و(السجود) لغة هو التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره من صور الخضوع, و(السجود) في الشرع هو وضع الجبهة علي الأرض بقصد الخضوع بالعبادة لله ـ تعالي ـ وهذا لا يكون أبدا لغير الله. أما سجود الملائكة لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ فقد كان صورة من صور إظهار التكريم والاحترام, وتقديم التحية الواجبة دون وضع الجباه علي الأرض, وهو لا يكون لغير الله كما ذكرنا, وذلك للمخلوق الذي كرمه الله, إقرارا بالمقام الذي رفعه إليه خالقه ـ سبحانه وتعالي ـ. وتستمر الآية الكريمة في الإشارة إلي وجود إبليس اللعين مع الملائكة ـ دون أن يكون منهم ـ فتقول: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾[البقرة:34]. والسياق القرآني هنا واضح الدلالة بأن إبليس لم يكن من الملائكة, إنما كان حاضرا معهم وقت هذه الواقعة, لأنه لو كان من جنس الملائكة ما عصي أمر الله ـ تعالي ـ أبدا, وذلك لأن من صفات الملائكة أنهم ﴿...لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾[ التحريم:6]. والاستثناء في الآية الكريمة لا يدل علي أن إبليس كان من جنس الملائكة, لأن مجرد وجوده معهم يجيز هذا الاستثناء, خاصة أن سورة الكهف تؤكد أنه ﴿... كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...﴾ [ الكهف:50]. والله ـ تعالي ـ خلق الملائكة من النور, وخلق الجان من النار, لقوله سبحانه ﴿...وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ...﴾ [ الرحمن:15]. والاسم( إبليس) مشتق من( الإبلاس) وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس, وفعله( أبلس) بمعني بئس إلي حد القنوط, لأن إبليس مطرود طردا مطلقا من رحمة الله, ولا أمل له في مغفرة أو توبة, ولذلك يئس من ذلك ومن هنا جاء اسمه. وواقعة أمر الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وتحقق سجودهم, مع رفض إبليس اللعين, لذلك جاءت الإشارة إليها في سبع من سور القرآن الكريم علي النحو التالي: 1 ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾[البقرة:34]. 2 ـ ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾[ الأعراف:12,11]. 3 ـ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ﴾[ الحجر:28 ـ40]. 4 ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء:61 ـ65]. 5 ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾[الكهف:50]. 6 ـ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [ طه:116 ـ122]. 7 ـ ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ﴾ [ ص:71 ـ80]. وهذه الآيات القرآنية الكريمة توضح طبيعة المعركة بين الشيطان والإنسان, تلك المعركة التي هي جزء من ابتلاء الإنسان باستخلافه في الأرض, بعد أن زوده الله ـ تعالي ـ بالعدة اللازمة للانتصار في تلك المعركة من العلم, والعقل, والإرادة الحرة, إذا أحسن توظيفها, خاصة أن الشيطان كان قد توعده بالغواية, وأن الله ـ تعالي ـ ترك للإنسان الباب مفتوحا للتوبة والإنابة, ويسر له الالتزام بالهداية الربانية التي أنزلها علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, ثم أتمها وأكملها وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم, ولذلك قال ربنا ـ عز من قائل ـ: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ﴾[ طه:123 ـ126]. وهذه الواقعة المتجسدة في الأمر الإلهي إلي الملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ وهو في الجنة, وتحقق سجودهم أجمعين له, ورفض إبليس اللعين السجود له استعلاء وكبرا, بدعوي أنه أفضل من آدم لخلقه من نار وخلق أبينا آدم من طين, ثم طرد إبليس من الجنة, وتوعده لآدم ولذريته بالغواية, حتى غواه وهو في الجنة فعصي آدم ربه, ثم تاب وندم, وقبل الله ـ تعالي ـ توبته, وعلي الرغم من ذلك أخرجه الله وزوجته من الجنة, ليبدأ الصراع الحقيقي بينهما وذريتهما( من جهة), وبين الشيطان وجنوده وأعوانه( من جهة أخري), وهو من طبيعة الاستخلاف في الأرض. كل ذلك من أمور الغيب المطلق الذي لم يشهده أي من ذرية آدم, وإيراد القرآن الكريم تلك الواقعة بهذا التفصيل حتى يعي كل فرد من أبناء وبنات آدم طبيعة العدو المترصد له بالفتنة والغواية,فيتعلم كل منهم كيف يوصد الباب دونه, ويقاوم كل محاولات الشيطان لإخراج الإنسان عن النهج القويم الذي وضعه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ له طيلة وجوده في هذه الحياة الدنيا, فإن غلبه الشيطان في لحظة ضعف, فإن باب التوبة مفتوح لا يغلق حتى يغرغر الإنسان, وهذا هو الدرس الأساسي من وراء إيراد تلك لواقعة. وأمر الله ـ سبحانه وتعالي ـ للملائكة بالسجود لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ, وتحقق ذلك, وعصيان إبليس الأمر الإلهي وطرده من الجنة, وإغواؤه لأبوينا آدم وحواء بالأكل من الشجرة المحرمة, وإخراجهما من الجنة, ثم توبتهما, وقبول الله ـ تعالي ـ تلك التوبة, كل ذلك لم يكن معلوما لأهل الجزيرة العربية, ولا لأحد من الخلق في زمن الوحي, لأن أهل الأرض جميعا كانوا قد فقدوا أصول الدين وابتدعوا فيه ابتداعا مخلا, أو انصرفوا عنه انصرافا كليا. فأهل الجزيرة العربية كانوا قد فقدوا الصلة برسالة كل من نبي الله إبراهيم, وولده نبي الله إسماعيل ـ عليهما السلام ـ فعبدوا الأصنام والأوثان, والنجوم والكواكب. وفي الدول المجاورة شرقا انتشر العديد من الديانات الوضعية كالمجوسية, والزرادشتية, والمانوية, والمزدكية, والصابئة, والدهرية, التي كانت قد ابتدعت في الدين ما لم ينزل به الله سلطانا. ولذلك لم يجد في تصحيح معتقدات العرب وجود بعض الجيوب من اليهود والنصاري علي أطراف الجزيرة العربية الشمالية والشمالية الغربية, والجنوبية الغربية, فهؤلاء كانوا في جملتهم من الأميين الذين لجأوا إلي الجزيرة العربية هروبا من اضطهاد كل من الفرس والروم, فكل من المناذرة والغساسنة كانوا عربا من أصول يمانية هاجروا إلي كل من شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق في القرن الثالث الميلادي بعد انهيار سد مأرب, وكانوا قد تنصروا, ويهود كل من خيبر ويثرب واليمن كانوا من بقايا الذين فروا من اضطهاد كل من الروم والفرس, ولم يجدوا ملجأ لهم إلا في أراضي شبه الجزيرة العربية, وأغلب هؤلاء كانوا من العوام الذين لم تتوافر لهم أية ثقافة دينية. وانطلاقا من هذا العهد الإلهي الذي قطعه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي ذاته العلية فستظل هذه الرسالة الخاتمة محفوظة بحفظ الله إلي ما شاء الله, لتبقي حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين, وشهادة بنبوة خاتم المرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | نبيلة محمود خليل Admin
عدد المساهمات : 884 تاريخ التسجيل : 20/08/2010
| موضوع: رد: الإعـجاز التاريخـي الأربعاء سبتمبر 28, 2011 6:05 am | |
| ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ... ﴾ [ المائدة:27]هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتم الربع الأول من سورة المائدة, وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وعشرون(120) بعد البسملة, وهي من طوال سور القرآن الكريم, ومن أواخرها نزولا, فقد نزلت بعد صلح الحديبية, أي في السنة السادسة من الهجرة النبوية الشريفة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي المائدة التي أنزلها الله ـ تعالي ـ من السماء كرامة لعبده ورسوله: المسيح عيسي بن مريم ـ عليهما من الله السلام ـ. ويدور المحور الرئيسي لسورة المائدة حول التشريع بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة الدولة الإسلامية, وتنظيم مجتمعاتها علي أساس من الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا, فردا صمدا( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد), وهذا التفرد للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ بالألوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, يجعل التشريع للعباد حقا من حقوق الله ـ تعالي ـ وحده, لا ينازعه فيه عبد من عباده. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة المائدة, وما جاء فيها من أسس كل من التشريع والعقيدة, وكل من الإشارات العلمية والإنبائية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز الانبائي الغيبي في ذكر قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ كما جاءت في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال. والواقعة لم يشهدها من البشر سوي آدم وزوجه وولديه وبنتيه, ولولا أن القرآن الكريم قد سجلها بهذا التفصيل الدقيق الذي يمكن استخلاص العبرة منه, ما علم بها أحد من البشر بعد, وما كان أمام العلماء والمؤرخين من وسيلة للوصول إلي معرفة شيء من تلك الواقعة التي طواها الزمن في أستاره. من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم: يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [ المائدة:27 ـ31]. والخطاب هنا موجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول له فيه رب العالمين: اقرأ يا محمد علي اليهود في المدينة حقيقة خبر ابني آدم ـ عليه السلام ـ حين تقرب كل منهما إلي الله ـ تعالي بقربة, فتقبل ربنا ـ تبارك وتعالي ـ قربة أحدهما لإخلاصه وتقواه, ولم يتقبل من الآخر لعدم توافر الإخلاص فيه, فحسد فاقد الإخلاص أخاه التقي المخلص, وتوعده بالقتل, فرد الأخ التقي الصالح بأن الله ـ تعالي ـ لا يتقبل العمل إلا من عباده الأتقياء المخلصين, قائلا: لئن أغواك الشيطان فمددت يدك نحوي لتقتلني, فأنا لن أمد إليك يدي لأقتلك, وذلك لأني أخاف الله رب العالمين, وسوف أتركك تفعل ما تريد لتحمل ذنب قتلي بغير إثم جنيت, فتكون من أهل النار, والنار هي جزاء الظالمين في الآخرة. وعلي الرغم من هذا الأدب في الحوار, والتحذير الشديد من النار فإن الأخ الظالم سولت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. وبعد وقوع أول جريمة قتل لآدمي علي وجه الأرض أصابت القاتل مختلف ضروب الحسرة والحيرة لأنه فوجيء بأخيه جثة هامدة أمامه بلا حراك, ولم يدر ماذا يصنع بها بعد أن قتل صاحبها, وبدأت الجثة في التعفن أمامه, فأرسل الله ـ تعالي ـ غرابا ينبش أمام هذا الإنسان القاتل في تراب الأرض ليدفن غرابا ميتا, كي يعلم هذا القاتل الأول من بني آدم كيف يواري جثة أخيه في تراب الأرض سترا لها, فانفجر هذا القاتل باكيا, ومتحسرا علي جريمته, ومستشعرا سوء عمله وعجزه وحيرته قائلا: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي... فقام بدفن جثة أخيه وهو يبكي ندما علي جريمته. وكما كانت هذه هي أول جريمة قتل يقترفها الإنسان كانت عملية دفن جثة هذا القتيل هي أول عملية دفن في تاريخ البشرية, وهذا الدفن في تراب الأرض كان بأمر من الله ـ تعالي ـ عن طريق عمل الغراب إكراما للميت, ومنعا لانتشار الأمراض والأوبئة إذا بقيت جثث الموتى معرضة للهواء. وعقابا لقاتل أخيه بغير ذنب, وتجريما لعملية القتل ظلما, روي الإمام أحمد بسنده إلي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان علي ابن أدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". وكطبيعة القرآن الكريم, أوردت الآيات(27 ـ31) من سورة المائدة: قصة ابني آدم دون الدخول في التفاصيل كالأسماء, والأماكن, والتواريخ, وذلك من أجل إبراز الدروس المستفادة, والعبر المستفادة من عرض القصة لنموذجين من نماذج البشرية النموذج التقي الصالح, والنموذج الشقي الطالح, وكلاهما في موقف من مواقف الطاعة لله ـ تعالي ـ يقدم كل واحد منهما قربانه إلي ربه.. فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, والفعل( تقبل) مبني للمجهول, ليشير إلي قوة غيبية, تقبلت أو لم تتقبل القربان بكيفية غيبية كذلك, حتى تسد علي التفكير البشري المحدود مجال الشطحات غير المرتبطة بنص صريح من كتاب الله ـ تعالي ـ أو من سنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولكي تؤكد براءة الذي تقبل منه قربانه, حيث لم يكن له يد في قبوله, ومن هنا لم يكن لأخيه مبرر في الغضب منه والحنق عليه حتى يجيش في نفسه خاطر قتل أخيه, وفي ثورة هذا الغضب هدد أخاه بالقتل قائلا: لأقتلنك, فلم يكن عند صاحب التقوى والورع من جواب إلا أن يقول: إنما يتقبل الله من المتقين, وهذا هو الدرس الأول المستفاد من هذه القصة. ويضيف الأخ الصالح قائلا لأخيه: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لا قتلك إني أخاف الله رب العالمين, ويحذر أخاه من الوقوع في جريمة القتل, فيقول له: إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين, والإثم الأول: هو إثم القتل الذي كانت تراوده به نفسه الأمارة بالسوء, والإثم الثاني: هو إثم عدم الإخلاص لله الذي أدي إلي عدم قبول القربان منه, وإن كان الإثم الأول قد جاء لاحقا للإثم الثاني. وما قاله الأخ الصالح التقي للأخ الطالح الشقي كان من أجل إقناعه بخطورة جريمة القتل, في محاولة لصده عن الوقوع فيها دون جدوى, وقد سجل القرآن الكريم ذلك بقول الحق تبارك وتعالي: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين, وهذا هو الدرس الثاني المستفاد من إيراد هذه الواقعة, لأنه قتل نفسا بغير حق, فأورد نفسه موارد المسئولية أمام الله, وكان المقتول هو أخاه شقيقه, المفروض فيه أنه عونه ونصيره في الحياة, فخسر الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين. وقد شاء الله ـ تعالي ـ أن يوقف هذا الشقيق القاتل أمام عجزه عن كيفية التخلص من جثة أخيه الذي قتله بيده, وتركه مسجيا علي الأرض جثة هامدة تتعفن أمام ناظريه, وهو لا يدري ماذا يفعل بها, والموت له رهبة لا يستطع القلم وصفها, والإنسان مكرم حيا وميتا, وهذا ما أوقع الأخ القاتل لأخيه في حيرة شديدة. وبينما الأخ القاتل في حيرته وسط هذه الدوامة من المشاعر والأحاسيس المتضاربة, بعث الله ـ تعالي ـ غرابا يعلمه كيف يواري سوءة أخيه, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [ المائدة:31] .
وهنا قام هذا الشقيق القاتل بدفن جثمان أخيه كما علمه الغراب, فأصبح دفن أموات بني آدم سنة ألهمها الله ـ تعالي ـ لعباده, وهذا هو الدرس الثالث, المستفاد من إيراد قصة ولدي آدم في القرآن الكريم, وهي تؤكد تصارع الخير والشر في الحياة الدنيا, حتى بين الأشقاء وبين أبناء الأنبياء. وتبين الواقعة كذلك أن الباطل لا منطق له ولا حجة تدعمه, ولذلك فسلاح أهل الباطل هو دوما البطش والقتل والطغيان, دفاعا عن مواقفهم الهزيلة, كما يحدث اليوم علي أرض فلسطين, وفي كل من العراق وأفغانستان, وعلي أراضي كل من الصومال والسودان وكشمير وأراكان وإنجوشيا والشيشان وفي غيرها من بلاد المسلمين. وهذا هو الدرس الرابع المستفاد من إيراد تلك الواقعة, وإيرادها هو من أوجه الإعجاز الإنبائي الغيبي في كتاب الله لأن الواقعة لم يشهدها أي من الناس سوي أبوينا آدم وحواء وأبنائهما المباشرين, ولم يكن لأحد من أهل الجزيرة العربية في زمن الوحي إلمام بها علي الإطلاق. من هنا كانت إشارة القرآن الكريم إلي قصة ولدي آدم تمثل وجها من أوجه الإعجاز في كتاب الله نسميه الإعجاز الإنبائي الغيبي حيث إن القرآن الكريم يخبر عن واقعة غيبية وقعت من قبل عشرات الآلاف من السنين, ولم يشهدها من بني آدم إلا آدم ـ عليه السلام ـ نفسه وزوجه وعدد من أوائل أبنائهما, ولم يكن لأحد من كفار ومشركي قريش إلمام بهذه الواقعة. إذا علمنا أن العرب في زمن الجاهلية لم يكونوا أهل علم وتدوين, بل كانوا في غالبيتهم من الأميين, وكذلك كانت غالبية أهل الكتاب الذين كانوا موجودين في عدد من الجيوب المعزولة علي أطراف شبه الجزيرة العربية الشمالية والشمالية الشرقية, والجنوبية الغربية كالمناذرة الذين سكنوا شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق, وكانوا عربا واعتنقوا النصرانية وتحالفوا مع الفرس, ثم دخلوا الإسلام بعد الفتح الإسلامي, وكالغساسنة وهم سلالة عربية كذلك, يمنية الأصل هجرت بلادها عند انهيار سد مأرب في القرن الثالث الميلادي, واستوطنت بلاد حوران وشرقي الأردن وفلسطين ولبنان, واعتنق عدد من أبنائها الديانة النصرانية, ثم أسلم غالبيتهم بعد الفتح الإسلامي, وكيهود كل من خيبر ويثرب والذين أسلم بعضهم بعد وصول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي المدينة, ويهود ونصاري كل من نجران واليمن.. إذا علمنا ذلك, أدركنا ومضة الإعجاز الإنبائي في إيراد القرآن الكريم لقصة ولدي آدم بالصورة التي اتسم بها هذا الكتاب العزيز في إيراد القصةـ لا بتفاصيلها التاريخية: المكانية والزمانية, ولا بكثرة أسماء وأعمار الأشخاص الواردة أسماؤهم فيها ـ ولكن بإيراد الدروس والعبر المستفادة منها, وهذا هو الفارق بين الوحي السماوي الذي حفظ بعهد من الله ـ تعالي ـ وبين قصص التراث الشعبي الذي نقل مشافهة عبر آلاف السنين فأضيف إليه ما أضيف وحذف منه ما حذف. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. | |
| | | | الإعـجاز التاريخـي | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |