الحلقة الخامسة عشر
تم نبيلة
ولم يزل اليهودى سيد زين المواصف يرحل بها وبجاريتها من بلد
الى بلد
وقد اشتغل قلبه بنار الغيرة واتقد . فلما مضت على ذلك سنة
قالت له : زين المواصف الى متى تسير بنا وتبعدنا عن الاوطان ؟
فقال لها : يظهر أن كل هذه الرحلات ، لم تمنع تبادلكما المراسلات
وأخشى أن تأخذى مالى ، وكل ما كسبته فى أقامتى وتجوالى ثم تهربى به الى عشيقك مسرور ، وعلى هذا لا خلاص لك ولا لجاريتيك من يدى ثم توجه الى أحد الحدادين وصتع لهمن ثلاثة قيود من الحديد ، ونزع ما كان عليهن من الثياب الغالية ، والبسهن ثيابا خشنة قاسية .
ثم دعا الحداد وأمره بوضع القيود فى أرجلهن . فلما رأى الحداد زين المواصف بهره بجمالها . وأدبها وكمالها . وعض على أنامله ، وطار عقله من رأسه ثم قال لليهودى : ما ذنب هؤلاء الجوارى ؟ فقال :
أنهن سرقن مالى وحاولن الهرب منى فقال له الحداد والله لو كانت هذه الجارية عند قاضى القضاة ، وأذنبت كل يوم الف ذنب ما آخذها .
وما أظن أن من كانت مثلها فى جمالها وكمالها تطيق وضع الحديد فى رجليها فقال له : أصنع لها قيدا أخف وزنا
فقال الحداد : سمعنا وطاعة وصنع لها قيداً خفيفاً وضعه فى رجليها
بينما وضع أرجل جاريتيها فى قيدين ثقيلين .
ثم أنصرف بعد أن أخذ أجره وهو يتعجب من جمال زين المواصف
ويحدث نفسه بأنها لا يمكن أن تكون سارقة ولا آبقة . وشعر فى قلبه بميل شديد اليها ، وأشفاق عليها لان جسمها الناعم لا يتحمل القيد ولو
كان خفيفا ، ولم يزل يفكر فى أمرها الى أن وصل الى منزله ، فاشتدت على قلبه الحسرات وأنشد فى وصف زين المواصف هذه الابيات :
حسناء كالشمس حازت منتهى الادب
والقيد فى رجليها يدعو الى العجب
ولو رأى حسنها قاضى القضاة رثى
لها وأجلسها فى أعظم الرتب
ومن تكن مثلها فى حسن طلعتها
فكيف تسرق أو تقوى على الهرب ؟
واتفق أن قاضى القضاة كان فى تلك اللحظة مارا على دار الحداد فلما
سمعه يترنم بانشاد هذه الابيات ، قال له : من هذه التى تلهج بذكرها وقلبك مشغول بها ؟
فقال له الحداد بعد أن قبل يده : أدام الله أيام مولانا القاضى وفسح فى عمره ، أنها جارية صفتها كذا وكذا .
وصار يصف زين المواصف وما هى عليه من الجمال والظرف والكمال
وقال : أنها ذات وجه جميل ، وخصر نحيل وردف ثقيل . وحديثها يشفى العليل . ولكن سيدها من أشرار اليهود ، ويعاملها بقسوه والحجود ، وقد وضع فى رجليها القيود ، وألبسها أخشن الثياب ، ومنع عنها الطعام والشراب . فقال له القاضى : دلنا عليها ، وأوصلنا اليها .
حتى نأخذ لها حقها . فقال الحداد : سمعا وطاعة ثم توجه لساعته الى دار زين المواصف ، فوجد الباب مغلقا َوسمع صوت الرخيم وهى تنشد هذه
الابيات :
قد كنت فى وطنى والشمل مجتمع
والحب يملأ لى بالصفو أقداحا
دارت علينا بما نهواه من طرب
فليس ننكر أمساء وأصباحا
لقد قضينا زمانا كان ينعشنا
كاسا وعودا وقانونا وأفراحا
ففرق الدهر والتريف الفتنا
والحب ولى ووقت الصفو قد رحل
فليت عنا غراب البين منزجر
وليت فجر وصالى فى الهوى لاحا
فلما سمع الحداد شعرها ، بكى بدمع كدمع الغمام
ثم طرق الباب . فسمع الجارية هبوب من خلف الباب تسأله عما يريد
فقال لها : أن مولانا القاضى علم بأمركن ، فرثى لحالتكن . وقد أمر باحضاركن لدية ، واقامة الدعوة بين يديه . فقالت له : كيف نذهب
اليه والباب مغلق علينا ، والقيود فى أرجلنا ، والمفاتيح مع اليهودى سيدنا ؟
فقال لها الحداد : أنا اعمل مفاتيح وافتح بها الباب والقيود . ثم أدلكن على بيت القاضى . فقالت له : زين المواصف : كيف نمضى عند القاضى ونحن لابسات ثياب الشعر المبخرة بالكبريت ؟ فقال الحداد :
أن القاضى لا يعيبكن وأنتن فى هذه الحالة .
ثم صنع الحداد مفاتيح الباب والقيود ، وبعد أن دخل عليهن وحل القيود عن أرجلهن ، أخرجهن من الدار ، ودلهن على بيت القاضى فذهبن
اليه بعد أن دخلت زين المواصف الحمام ، ولبست أحسن الثياب . وكان اليهودى فى ذلك الوقت مشغولا بحضور وليمة عند بعض التجار . فانتهزت هذه الفرصة وتزينت كذلك أحسن الزينة .
وما كادت تدخل على القاضى حتى نهض قائما ، ووجد نفسه متيما بها هائما
وأدرك شهر زاد الصباح ، فسكت عن الكلام المباح